المقالة

انتصار السوق

عن الشبكة

القبعة ونجمة الصباح والشعر الطويل وبدلة الكاكي، تلك مكونات أيقونة الثورة منذ نهايات القرن العشرين وحتى الآن، أعني”ارنستو تشي غيفارا”.

كان عدوا متحمسا ومتطرفا للرأسمالية وللديمقراطية بشكلهما الأمريكي، كان يحلم ويخطط للقضاء على ما عرف بالاستعمار الجديد والذي مثلت أمريكا بقيمها الليبرالية وشركاتها العملاقة النهمة رمزه الأكبر، كان طبيبا حالما بعلاج شاف لكل أمراض وآلام الإنسانية، وأيقن بأن العلاج الشافي لكل تلك الأمراض، كان الاشتراكية والطريق إلى الاشتراكية هو الثورة المسلحة وزحف الأرياف على المدن وسيطرة الفلاحين والعمال والثوار المؤمنين بذلك العلاج على مصائر الدول والعالم. ذاك كان”جيفارا”، كان المشروع البديل والمعادي للسوق والرأسمالية والليبرالية، ولخص كل ذلك في العداء لأمريكا ومحاربة شركاتها وفلسفتها وفنها وقيمها الأخلاقية, ومساندة الشعوب المستعمرة للخلاص من الرأسمالية بشكلها التقليدي الذي ارتكز رغم كل التبريرات على قيم الثورة الفرنسية ومدها النابليوني الإمبراطوري، بحجج نشر الحضارة والمدنية وسط شعوب خارج التاريخ”كما ترى أوروبا التاريخ”

حين كان جيفارا شابا صغيرا حاول الدخول إلى أمريكا متسللا، وكان تسلله يختلف عن أساليب التسلل السائدة إذ ذاك، فلقد قفز إلى طائرة رابضة على أرض مطار واختبأ بين الأمتعة دون أن يلاحظه أحد، نجح جيفارا الشاب في الوصول إلى أمريكا ولكنه لم يدخل أمريكا، فلقد ضبطه الأمريكان بين الأمتعة واوسعوه ضربا ثم أعادوه إلى بلاده. اكتشف جيفارا عبر تلك المغامرة أن الأمريكان لايختلفون عن جنرالات أمريكا اللاتينية، وأن شعارات الحرية أكذوبة كبيرة، وآثار ديمقراطيتهم على جسده حقيقية!

عبر علاقته بفيديل كاسترو تحول جيفارا إلى اشتراكي متطرف، يرى في الكفاح المسلح الطريق الوحيد لتحقيق العدل والسلام. خاض جيفارا حربه ضد جنرالات قارته الذين نصبتهم ديمقراطية أمريكا وشركاتها النهمة، وتمكنت في النهاية المخابرات الأمريكية من قتله، وكل ذلك معروف.
أمريكا ورأسماليتها لم تكتفِ بقتل جيفارا، ولم تكتفِ بالأرباح التي جنتها من قتل جيفارا، فشرعت في استثمار”جيفارا” على نحو مختلف. انطلقت دور نشرها ومطابعها في طباعة ونشر مذكراته وقصة قتله لتبيعها لملاين القراء الكارهين لأمريكا ولعشاقها
و أيضا لتجني من رأس جيفارا ملايين الدولارات.

هوليوود أنتجت تفاصيل حياة جيفارا لجمهورها العريض لجني ملاين الدولارات وليتحول جيفارا على شاشتها إلى مغامر وسيم، لايحمل في رأسه أفكارا ومعتقدات ضد الرأسمالية والليبرالية الأمريكية. مصانع القبعات شرعت في تصنيع قبعة جيفارا منذ مقتله وحتى الآن دون أن تنزع عنها”نجمة الصباح” شعار اليسار، عدوها الحقيقي!
مصانع البناطيل، ومصانع الأحذية ومصانع السيجار، كل المصانع والأسواق التي خرج جيفارا ليحاربها ويقضي عليها، تحولت إلى حواضن لتصنيع ما يخص جيفارا من أجل جني الأرباح من رأسه، وعينيه وأنفه وقدميه، كانوا يفككونه قطعة قطعة ويبيعونه بالقطاعي، قبعة، حذاءً، بنطالا، كانوا قد حولوه إلى سلعة تجلب الأرباح.
جيفارا، المحارب الشرس ضد الرأسمالية، تحول على أيدي دهاقنة الأسواق إلى سلعة رأسمالية ممتازة وضرورية للتجديد في مواصفات السلع ونكهاتها الواجبة التغير من حين لآخر.

جيفارا نصير الفلاحين ضد الإقطاع ونصير العمال ضد رأسماليي المدن، نصير الشعوب المستعمرة ضد مستعمريها، نصير الأفارقة والعرب من أجل تحقيق استقلالهم الوطني عن القوى الاستعمارية، تحول بماكينات السوق الرأسمالي عدوه الأول، تحول وجهه وعيناه ونجمته وقبعته إلى سلع تدعم الرأسمالية وتغولها الجديد.
لقد خاض جيفارا حربه ضد السوق وقوانينه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية واستطاع السوق الانتصارعلى جيفارا وأعاد تفكيكه وفرز مكوناته وتدويرها من جديد، بمواصفات جديدة ونكهات جديدة

مقالات ذات علاقة

ـ الـروق من عطـر نـاس الـذوق ـ 5

نورالدين خليفة النمر

أسرار العمل الفني

سعود سالم

ليبيات مبدعات.. أصوات وصمت

أسماء الأسطى

اترك تعليق