صدرت هذا الأسبوع رواية «أسطورة البحر» للروائية الدكتورة فريدة المصري، عن دار الفرجاني التي تخصصت في إصدار أي عمل تاريخي أو قصصي أو روائي له خصوصية ليبية، تدور أحداث الرواية في مدينة طرابلس الغرب، وتتخذ المكان كبطل حقيقي للنص، فالخلفية المكانية في النص كانت طاغية جدًا؛ حيث حولت الشخصيات لسارد وظيفته الأساسية سرد تاريخ المكان، سواء كان شارعًا أو زنقة أو سوقًا أو مسجدًا أو ميدانًا أو بابًا أو حمامًا تركيًا، أو مقهى، إلخ.
تصف فريدة المصري التي عرفت في المشهد الثقافي الليبي باهتماماتها بالنقد وعلم النفس وبأدب الطفل، قبل أن تفاجئنا بولوجها عالم السرد، باكورة عملها هذا «رواية أسطورة البحر» برواية «الروح»، وتعلل ذلك بقولها: «لقد كتبتها بكل ما في روحي من مشاعر وذكريات وجمال، رواية جغرافية، أبطالها الأماكن التي ولدت وتربيت ونشأت فيها، وهذه الأماكن كلها في طرابلس، التي أطلقت عليها «أسطورة البحر».
خلفية مكانية
وبقراءة الرواية نجد أن الكاتبة اعتمدت بشكل كبير على خلفية مكانية تمثل طرابلس وما بها من معالم معمارية وأثرية الرواية مثل: قوس أورليوس ماركوس وتمثال سبتموس سفيروس، الذي كان رابضًا في ميدان الشهداء أمام باب سوق المشير، قبل اجتثاثه من قبل سلطات النظام السابق وركنه في إحدى الزوايا المظلمة بمتحف لبدة.
لم تهمل الرواية الجانب الديني لمدينة طرابلس فجالت بشخصياتها داخل مساجد المدينة التي تعتبر متاحف ثابتة لفن الخزف والفسيفساء والحروفيات التي زينت محاريبها وأروقتها وأسقفها، كما منحت نفسًا تسامحيًا لأماكن العبادة الخاصة بمن سكن طرابلس من غير المسلمين كاليهود والمسيحيين من خلال عرض كنائسهم وكنيسهم «بالنسبة لليهود» وتحريك الأحداث من خلال هذه الأماكن التي كان لها تأثير سياسي واجتماعي واقتصادي في كل ما عاشته طرابلس من مسرات وأحزان.
الرواية حتى وإن بدت لنا لوحة جغرافية تحتفي بالمكان، إلّا أنها تتحول في كثير من صفحاتها إلى عدسة فوتوغرافية تصف أمكنة طرابلس من خلال ذاكرة طفلة بدأت تكبر وتكبر الأحداث والأماكن من حولها.
فأماكن مثل «باب الحرية» و«القبة» و«الفنار» و«ميدان الغزالة» يكون لها تأثير كبير في تأثيث النص الروائي ومنحه نفسًا طرابلسيًا أصيلاً، يمكن للقارئ أن يعيشه حتى وإن لم يزر طرابلس على الطبيعة إطلاقًا، فمن خلال التفاصيل الصغيرة التي لم تترك شيئًا دون مس.
لا يجد القارئ نفسه معايشًا الحدث فقط، إنما يشارك فيه بابتسامة، برأي، باستهجان عندما يقرأ طرابلس على الورق ويراها الآن على الواقع وما تعيشه من عبث ودمار.
طفلة تكتب
الطفلة الكاتبة وهي تركض بقلمها، تنقب ذاكرتها، وتفرغ ما فيها من مباهج وحميمية على الورق، تشعرك بأهمية هذه الكتابات والتي وإن خلت من دراما الحدث والتصاعد في الانفعالات والتشويق والأجواء البوليسية التي تجعلك تفكر لمعرفة سر الجريمة، فإنها زخرت بما هو أهم مما تعرضه الروايات الكلاسيكية المكتوبة بطريقة شد القارئ من تلابيبه كي يقرأ، وهو تقديم لوحة الحياة بكل تفاصيلها، لتتركك تشكل درامياتك وصراعاتك وتشعل أحاسيسك براحتك، ها هي الآن تنقلنا إلى الحضرة إلى يوم المولد إلى المناسبات الاجتماعية، الأفراح بكل تفاصيلها، شهر رمضان، العيد، وما يصاحب هذه المناسبات من أشياء غالبًا ما يعلق جانبًا كبيرًا منها في ذاكرة من عاشها ليلازمه حتى القبر.
الشخصيات الطرابلسية المعروفة والتي نعتبرها أعلامًا في مجالاتها كان لها حضور مميز، المطرب سلام قدري والشاعر علي صدقي عبدالقادر والمطرب والشاعر والمبدعان الوديعان كعصافير طرابلس، كبيوت طرابلس التي عرفت على مر التاريخ أنها مسالمة، ولا سكاكين في بيوت أهلها.
«المشاميم الثلاث»
ترتكز الرواية على شخصية السارد وهي ابتسام التي تتذكر ما يحدثه بها والدها ابن هذه المدينة وقد قسمت الرواية إلى ثلاثة فصول أطلقت عليها الكاتبة المشمومة 1 – 2 – 3.
والمشمومة معروفة في طرابلس وهي وردة مكونة من زهرة الفل المشمومة، الأولى تحتوي على أربعة أقسام: المكان والتاريخ توأمان – قوس البدوي – جنان النوار- الطريق إلى منيدر.
المشمومة الثانية تحتوي على: المدينة القديمة – الزاوية الكبيرة – القره قوز- البانكينا – حوكي وحرايري – جارتنا الأمازيغية – الكروسة.
المشمومة الثالثة وتحتوي على: الغزالة (الأرجوزة المائية) – السرايا (قصيدة هايكو يابانية) – فارس الأحلام – تريبوليتانيا (لوحة بعد لم تكتمل).
ومعظم أجزاء الرواية هي أسماء لمعالم من مدينة طرابلس القديمة، ارتبطت بأحداث عاشتها المدينة ومعظمها حاليًّا اندثر أو يعاني الإهمال والتجاهل، بعد أن غادر أهل طرابلس الأصليين إلى خارجها، وتركوا مرابع شبابهم وصبواتهم للوافدين ولغيرهم من المغامرين والناس التي لا تفهم أن المكان الأثري والقديم قيمته غالية وعزيزة، في هذه الرواية تحاول الكاتبة أن تستعيد سيرة حياتها المهدمة كبنيان ومعمار طرابلس وتحاول أن تبنيها من جديد من خلال القيمة النبيلة التي عاشت سابقًا في هذه الأمكنة المهدمة والتي للأسف لن تتهدم في خيالها أو ذاكرتها، فالرواية على الرغم من أن كاتبتها امرأة، إلا أنها لم تقع في فخ الذاتية وأجواء الخواطر العاطفية والتوغل في مشاعر ترهل متن الرواية، وصبّت جل اهتمامها على عروس أخرى أهملتها الحياة هي طرابلس لتبني أسطورتها من جديد بشكل عصري حضاري لائق بعراقتها ومكانتها في نفوس من مر بها أو حلم بها أو حتى من اتخذها مطية لينهب الحياة ردحًا من الزمن.
فريدة المصري في سطور
كاتبة وناقدة وأكاديمية ليبية أستاذة جامعية في قسم اللغة العربية / كلية اللغات / جامعة طرابلس، وهي أول ناقدة أدب أطفال في ليبيا.
ومن إصداراتها: أدب الأطفال في ليبيا في النصف الثاني من القرن العشرين – الأداء النفسي بين التذوق الفني والالتزام.