المقالة

فلسفة الضمير

حسن المغربي

يحيل معنى الضمير لغة إلى شيء المتواري أو المستور ( فعل بمعنى مفعول ) ، والمعبر عنه باللغة الانجليزية ” conscience” التي تعني لو فصلنا ” con” عن ” science” العلم المضاد أو العلم السلبي (الباطن)، وهو المفهوم ذاته الذي جاء به الفيروز آبادي ” السر داخل الخاطر ” ، وحديثا عرَفه لجنة المعجم الوسيط بأنه ” استعداد نفسي لإدراك الخبيث والطيب من الأعمال والأقوال والأفكار والتفرقة بينها ” وبغض النظر عن قانون الصرف الذي أوجد من خلال نظرية الاشتقاق والمقاربة مفردات عديدة للشيء أو المادة الواحدة ، إلا أن الجوهر أو الأصل حسب مفهوم اللغويين يبقى هو الأساس والمرجع في جميع الإثباتات الخاصة بتاريخ الكلمة أو اللفظ ، هذا من جهة المعنى الحقيقي لأي مصطلح أو صوت خرج من اللسان ، لذلك كان اهتمام العلماء بهذه القضية مبكرا ، فهم بالرغم من تباين آرائهم في الإشكالات المتعلقة بمفهوم النص بشكل عام ، واستباقهم في اجتراح التعريفات والمصطلحات التي تؤيد زعمهم أثناء عمليتي التفسير والتأويل ، إلا أنهم في النهاية يرجعون إلى نفس المصدر الذي استند عليه الفريق الآخر .. ومن خلال تفسير النص سواء أكان فلسفيا أم أدبيا يظهر هذا الاختلاف واضحا خاصة حينما يتعلق الأمر بالقيم والأشياء المرتبطة بالأخلاق ومبدأ الخير والشر وغيرها من أنواع السلوك الإنساني ..

وبالتالي فإن منطلقات هذا الاتجاه الذي يمثله – في الغالب – طائفة اللغويين يستند كما هو معروف على مفهومي الاستقراء والقياس .
لكن في المقابل ظهر اتجاه ثالثا – وهو الأقدم من الناحية التاريخية – سعى منذ نشأته الأولى عند شواطئ بحر إيجى على تمجيد العقل ، وخلخلة كل ما هو متعارف عليه من عادات وطقوس بين الناس ، هذا الاتجاه يمثله الفلاسفة منذ سقراط إلى هيدجر ، فسقراط رغم اعترافه بالفضيلة ومدي إمكانية غرسها في نفوس الآخرين عن طريق التعلم ، لكنه في النهاية ترك عملية البحث والتطوير فيها إلى الأجيال اللاحقة من الفلاسفة ولم يقل بشأنها شيئا ثابتا باستثناء تأكيده على المعنى الأخلاقي لها . وكانت قالته تلك ضد مفهوم السوفسطائيين الذين يعتقدون بنسبية القيم وضد من اتهمه بالفساد الخلقي من أهل آثينا .. ولو تتبعنا أقوال الفلاسفة الذين جاءوا من بعده لوجدنا قسما منها مناهضا لما ذهب إليه كما جاء عند أرسطو ” ما قاله سقراط في الفضيلة يتناقض مع الخبرة ” والقسم الأخر مؤكدا بامتياز لما صرح به كما هو عند توما الأكويني “عن طريق العقل يكتسب الفرد فعل الفضيلة “..

هذه الآراء تعتبر من الناحية البرهانية لا علاقة لها بعملية اجتثاث اللفظ من المعنى المتأصل تاريخيا في اللسان الجمعي لأي شعب ، لكن بافتراض المسار الجينيالوجي الذي يهتم بالجذور لا بالقشور .. استطاع بعض الفلاسفة المعاصرون كدريدا مثلا تفكيك البنية المعرفية للعقل الغربي بدا من اعتماد الشك على اليقين إلى أن وصل عن طريق الحفر في تاريخ الكلمة إلى القول بالتمركز حول الصوت أو ما يعرف بميتافيزيقا الحضور، وذلك من خلال نقد الأصل – الثابت بالقوة لمفهوم العقل ، ولعل السبب الذي جعل دريدا يتتبع آراء أعلام الفكر من أفلاطون إلى دو سوسير هو وقوفه على التناقض الحادث في كتابتهم ، فوجدهم متفقين في الاعتماد على الكلام ( النطق ) وإهمال الكتابة ، لأنهم قد عبروا عن كرههم للكتابة – كما يقول – بسبب خشيتهم من قوتها في تدمير الحقيقة الفلسفية ، التي يرون أنها حقيقة نفسية خالصة ، وشفافة ، ولا يعبر عنها إلا بالحديث الذاتي ، أو الحديث المباشر مع الآخرين .

ومن هذا المنطلق الذي يتوسل إلى جينالوجيا نيتشه ، وفينومينولوجيا هوسرل وتفكيك ” deconstruction” دريدا ، مع حفظ ( تدمير ) هيدجر الذي يعد أول من قرع نواقيس نهاية الميتافيزقيا باعتراف دريدا نفسه ، فإن مفهوم الضمير ولا أقول لفظ الضمير – للابتعاد عن خطر التعريفات – ليس الشعور بالموافقة أو عدم الموافقة على سلوك معين كما عبر عن ذلك المفكر الفرنسي ” لوسن ” حينما قرر أن الضمير هو ملكة الإقرار والاستهجان ، ولا هو في الوقت ذاته ” القاعدة الحية ” التي تستند على عادات وتقاليد الجماعة كما صرح ” مادنييه ” ، بل هو أبعد بكثير عن هذا وذاك ، فالضمير كما جاء عند توما الاكويني ” هو الحكم الصادر عن العقل “، وبصرف النظر عن كلمة ( هو ) التي استخدمها الاكويني الدالة عن الثبات المعياري الأوحد والتي تفيد بالتقديس في معظم الأحيان ، فإن هذا الفهم قريب جدا لمحتويات الطبيعة البشرية الباطنية ، المعبر عنها (بالدين الطبيعي ).. فالإنسان- مثلا- بغض النظر عن ديانته ميال إلى فعل الخير ، ميال إلى فعل السعادة والعبادة والتقديس ، حتى الملحدون الذين لا يؤمنون بأي دين نجدهم يقدسون العقل أو ما شابه ذلك ، لذا نجد الكثير من الفلاسفة ينهجون نفس الاتجاه الذي سار فيه أصحاب الحاسة الخلقية ، وكان أشهرهم من ناحية التأصيل ” جوزيف بتلر ” الذي خصص الكثير من آرائه الأخلاقية لمفهوم الضمير حتى أصبحت أفكاره تعرف فيما بعد بفلسفة الضمير ..

مقالات ذات علاقة

الحكومةُ الليبيةُ تحاربُ عالمية (غدامس) 2-1

يونس شعبان الفنادي

العولمة العميـاء ومُعضلة التخلُّف!

خالد السحاتي

هامشٌ على المقالة

المشرف العام

اترك تعليق