عاشور الأطرش
للفنّ مدًى واسعٌ وسع الحقيقة ووسع الخيال. تتعدّد مشاربه وأنواعه، لا يبخل على عقلٍ أو عاطفة، أو لسانٍ أو بنان. ولكنّه في الوقت نفسه يتماوج بين قبولٍ أو رفض، وترحيبٍ أو صدّ، والفيصل في ذلك، مدى اكتسابه الذّائقة والملكة الّتي من طريقهما يلقى قبولاً وترحيبًا، ورضًا لدى المتلقّي، تبعث فيه نشوة ومتعة وأثرًا يجعله يقبل على وِردٍ يستزيده ولا يصدر عنه.
وفنّ المقالة أحد تلك الفنون الّتي ما برحنا نقبل على بعضها ونعرض عن بعضها، سبيلنا إلى ذلك الفنّ؛ مَلَكة وذوق وغاية الكاتب ومدى قدرته على نسج مقالةٍ في كلماتٍ تماهي العصر، ولا تُخطئ القصد، ولا تجافي الذّوق.
لقد برعَ كُتّابٌ في هذا الفنّ براعة أخّاذة سلسة سرعان ما تشدّكَ إليها، قد تكون بدايتهم متعثّرة، ولكنّهم ما لبثوا أن ملكوا زمام الكلمة وبعد النّظر، فكانت سطورهم شاهدة على ما وصلوا وما بلغوا.
لم تُتْرَكْ المقالة هائمة في دنيا الفكر والقلم، بل طالها التّصنيف والتّأريخ، ولعلّ كتاب الدّكتور محمّد يوسف نجم ” فن المقالة” خير شاهدٍ على ذلك، فقد تناول المقالة ونشأتها والمراحل الّتي مرّت بها وأنواعها، على أنّ القارئ له رأيه فيما يقرأ ويُطالع، ولا عجب إذا ما سلك سبيل القلم الّذي يمدّه بالفكرة البكر في أسلوب حسنٍ، ما إن يبدأ القراءة حتّى يُأسر ويستسلم لذلك الأسر الحلو الّلذيذ بشغفٍ ومتعة قاطفًا ألفاظًا رُصّعتْ بأنامل احترفت فنّ الرّصعِ وفنّ السّبك، يراها فتشدّه وتبهره. وهكذا دأبه في كلّ مقالةٍ يقرأُها لكاتبٍ عوّده القطفَ من بستانه، فآنسَ ذلك البستان يعوده كلّما أينع ثمره.
ولا شكّ أنّ الّلغة مطواعة لمن ينشدها راغبًا مجتهدًا فما كانت لتصدّ واردًا، أو تبخل على قاصد، وما كانت إلاّ لحنًا عذبًا لمن قوّم لسانه وصغت أذنه، وهفا فؤاده، وتزوّدَ منها قدر استطاعته وجهده، لتكون مداد قلمه، وسنّ رمحه.
والمقالة بتعدّد أطباقها وتنوّع مذاقها تُنافس غيرها من الفنون، فلا غنًى عنها لقارئ أو كاتب أو شاعر، فهى لا تحتاج وزنًا ولا قافية، كان السّجعُ يُقيّدها فكسرته، والتّقعّر يربكها فتجاوزته، هى بساطٌ سابحٌ للفكر والقلمِ، مفتوحةٌ كالسّماء في صفوها وغيمها، ورعدها وبرقها، غير أنّ أبهى أوقاتها ساعة هطول غيثها، تروي النّاهل، وتُنْضِرُ النّبتَ، وتسرّ النّظر.
هذه مقالةٌ، وهذه أخرى، فاقطفْ ما شِئتَ، وانشقْ ما شئت، ودعْ ضوعها يُسكرك.
14/ 9 / 2019 م.