عندما أدرك الإنسان الأول أنه كائن فانٍ تعاظم خوفه. كان يخشى الظواهر الطبيعية والحيوانات المفترسة، ولكن الخوف من الموت والاندثار جعله يخاف من الوجود نفسه. تخيل أنه نيزك صغير يعبر السماء بذيله الناري ثم يرتطم بالأرض وينطفيء وينتهي كل شيء، وعندما تعلم دفن موتاه تصور أن هناك حياة أخرى بعد الموت، وظل يغذي هذا الاعتقاد حتى تحول إلى أشكال عديدة من التصورات.
في حضارات وأديان الشرق الأقصى، كان الاعتقاد بوحدة الوجود والاستنساخ هو أساس الدين، فبعد أن يموت الإنسان يتحلل جسده إلى عناصره الأولية، وينتقل إلى كائنات أخرى قد تكون نباتات أو حيوانات أو إنسانًا، ويبعث مرة أخرى بشكل جديد.
في أساطير وأديان الشرق الأوسط كان الإيمان بالبعث مفهومًا مركزيًّا، وإن تنوعت التصورات، ففي الحضارة السومرية وفقًا للباحث العراقي خزعل الماجدي.
يتحلل الجسد في القبر وتنتقل الروح عبر ثقب في القبر إلى العالم السفلي، وتتحول إلى طائر من أثير يحمل نفس وجه الميت، ويعيش هناك حياة سرمدية، وفي الحضارة المصرية لابد من تحنيط الجسد، ليكون جاهزًا لاستقبال الروح يوم الحساب، حيث يمثل الميت بروحه وجسده أمام الإله أوزوريس، فيأخذ قلبه ويضعه على كفة الميزان، ويضع في الكفة الأخرى ريشة الإله ماعت رمز العدالة، فإذا خفت موازينه ينقل إلى حدائق أوزوريس حيث يمنح ملابس جديدة ويعيش هناك إلى الأبد، أما إذا كان قلبه ثقيلًا فهذا يعني كثرة ذنوبه وخطاياه، فيرمى إلى حيوان خرافي رأسه رأس تمساح وجسده جسد أسد فيلتهمه ويختفي من الوجود.
نلاحظ أن البيروقراطية المصرية تسللت إلى يوم الحساب، فهناك تفصيلات كثيرة لكي يصل الإنسان إلى حدائق أوزوريس، كما لا توجد مرحلة تطهير مثل ما ظهر في الأديان اللاحقة، فالميت إما أن يدخل إلى الحديقة أو«يغور في ستين داهية»، ولكن الطريف في الأمر أن من يدخل حدائق أوزوريس سيعود فلاحًا كما عاش طوال حياته، غير أنه سيتخلص من العمدة وشيخ الخفر ومأمور المياه وموظفي الضرائب وغيرهم من بيروقراطيين جعلوا حياته جحيمًا.
وكما في كل تاريخ مصر ليست هناك عدالة اجتماعية في الآخرة، والسبب هو درجات التحنيط فهناك ثلاث درجات، الدرجة الأولى يحظى بها الملوك والأمراء والأميرات والوزراء والقادة وكبار رجال الدولة، وهو مكلف جدًّا وتستخدم فيه مواد نادرة، ولهذا بقيت مومياءات الملوك بحالة جيدة بعد آلاف السنين، والدرجة الثانية للتجار والأغنياء والقادرين ماديًّا، أما الفقراء فيحنطون بمواد رخيصة الثمن، تكفي للحفاظ على الجسد عدة سنوات قبل أن يتحلل، فالفقير الميت لن يدخل حدائق أوزوريس لأن جسده اختفى.
كل الحضارات والأديان التي ظهرت في منطقة الشرق الأوسط ركزت بشكل كبير على البعث والحساب، والثواب والعقاب والجنة والنار بنسب مختلفة، ولكن التركيز كان شديدًا في الحضارة المصرية، حتى أصبح الهدف من الحياة هو اليوم الآخر، أما السعي في الدنيا ومحاولة تحسين الوضع الاجتماعي فهو لضمان تحنيط ممتاز استعدادًا لليوم الآخر، وعلى الرغم من أن المسيحية والإسلام جاءا بتصورين مختلفين لليوم الآخر، إلا أن المعتقدات القديمة لا تزال راسخة في وجدان الناس، وفي لا شعورهم الجمعي، وهذا ما لاحظته خلال إقامتي في مصر.
المصريون يستقبلون الموت بطريقة مغايرة لما رأيته في ليبيا وفي البلدان التي عشت بها أو زرتها، وينفق أغنياء مصر على مدافنهم ببذخ، وطريقة الدفن نفسها تختلف عن بقية البلدان، حيث يتكون المدفن من غرفة علوية تجتمع فيها العائلة في المناسبات، وغرفة سفلية تجمع رفات كل أفراد العائلة الميتين، وفي العقود الأخيرة تحولت المدافن لمساكن للفقراء مقابل حراسة رفات الأموات بعد أن تحولت تجارة الجماجم والهياكل العظمية إلى تجارة رائجة يقبل عليها طلبة كليات الطب.
اندثرت الحضارة المصرية ولم تترك لنا إلا الأهرامات وأبا الهول والمعابد الضخمة والمسلات والمومياءات، ودفنت الرمال أسرارها وثروات الملوك الهائلة وتجارة الآثار الرائجة، لكن التشبث بمظاهر التدين ظل حاضرًا بقوة في وجدان الناس وإن اختفى الإيمان بمفهومه العميق، فغالبًا التاجر الذي تسمع في محله القرآن ويحمل زبيبة على جبينه ومسبحة في يده هو من سينصب عليك.
هل يا ترى غرقنا جميعًا في رمال اليوم الآخر، وأهملنا اللحظة الراهنة فبقيت المنطقة من العراق إلى موريتانيا تجتر أقوال السابقين، دون أي مساهمة تذكر في الحضارة الإنسانية، أو كما يقول البعض حين يرى الفرق بيننا وبين الأمم الأخرى، «هذه جنتهم»، أما جنتنا فهي ليست في هذه الدنيا إنها في اليوم الآخر.
بوابة الوسط | 5 أغسطس 2024م