المقالة

الوهمُ الشعري

من أعمال التشكيلي الليبي محمد الخروبي
من أعمال التشكيلي الليبي محمد الخروبي

كثيرٌ من النصوص يصنفها مبدعوها بأنها (قصائد شعرية) ويصرون على انتسابها لجنس الشعر الحديث، بينما هي تفتقد كلياً أهم ركن ترتكز عليها القصيدة الشعرية وهو دفقة الإحساس العميق المفعم بفكرة النص، أو كما يسميه بعض النقاد (الكون الشعري) المتأسس على قوة المفردة اللغوية وقدرتها التعبيرية عن رؤية وفكر مبدعها الشاعر، ومن ثم مدى تمكن الصورة الشعرية الشاملة التي تنسجها وتشكلها تلك المفردات من إقناع المتلقي بفكرة النص المتخلق، وصورته التعبيرية الفنية، وهيمنتها على أحاسيسه، وتطويقه، وإغراقه في بحار الدهشة والإبهار. وهنا أزعمُ أن نصوص تلك القصائد ينطبق عليها القول المعروف (ليست كلُّ القصائدِ شعراً) بصرف النظر عن التفرعات الفنية لمصطلح الشعر وأجناسه المتعددة سواء كان عروضياً كلاسيكياً مقفى أو نثرياً أو عمودياً أو تفعيلة أو غيرها.

إضافة إلى ذلك فإن كثيراً من النصوص الشعرية الحديثة تزدحمُ بنياتها الإنشائية التكوينية الداخلية وهياكلها المعمارية الظاهرية بزخارف وألوان وتركيباتٍ لمفردات لغوية جميلة متناسقة، وإيقاعية رنانة ممتعة تشد الأذن تتراصُ بأنماطٍ مختلفةٍ في شكلها، أفقيةٍ منبسطة أو عموديةٍ تنازليةٍ، أو ربما متقطعةٍ أو منفصلةٍ أو متصلة بنقط أو علامات تعجب، أو أحياناً استفهامية المضمون أو حوارية أو جوابية أو وصفية أو غيرها، بينما يظلُ أهم عنصر في النصّ الشعري وهو الإحساس الحقيقي الصادق مفقوداً وغائباً عنها، لا نشم حتى رائحته وسط ذلك التطريز اللغوي المزدحم والمختلط بين المباشرة السطحية والرمزية القاتمة بأنواعها غير المتجانسة، ليبدو أغلبها مثل بعثرة مجموعة ألوان مائية مختلفة على سطح رقعة معينة، ظناً أنَّ مساراتِ اختلاطها العفوي والعشوائي يرسم لوحة فنية تشكيلية تحمل وتوطن رسالة هادفة بلغة سريالية أو تجريدية أو غيرهما.

(تأملاتٌ في نقوش المعبد) للأديب الليبي خليفة التليسي
(تأملاتٌ في نقوش المعبد) للأديب الليبي خليفة التليسي

وفي هذا السياق أجدني أشاطرُ الدكتور الراحل خليفة التليسي وأتفقُ معه تماماً فيما أورد بمقالته (موتُ الشعر في القصيدة) المنشورة بكتابه (تأملاتٌ في نقوش المعبد) الصادر في طبعته الأولى سنة 1986م حين قال: (لقد مات الشعر في القصيدة الحديثة وكان أول من أعلن وفاته هو الشاعر نفسه، هو صاحب هذه القصيدة التي التهمتها نيران الغموض أو المباشرة.. لو ذهبتم تصنفون الشعر الحديث لما وجدتموه يخرج عن خانتين، خانة للغموض وأخرى للمباشرة.. ولا يكاد يسلم من الوقوع فيهما إلا القليل الذي يمكن أن نقول إن الشعر الحديث قد قدمه كعطاء ومشاركة في مخاطبة الوجدان الإنساني وإثرائه..) ص 26-27.

وأنا إذ أعرضُ هذا القول الذي أخترت أن يكون بعنوان (الوهم الشعري) أو أشير إلى ما اقتبسته من الأديب الكبير الراحل خليفة التليسي طيّب الله ثراه، فإنني أرى أن استسهال الكتابة الشعرية لدى البعض صار عارماً في أوساط الكتبة، خاصة اليافعين الشبان، وبارزاً في كثير من النصوص التي تدَّعي تجنيسها شعراً، بينما المسافات شاسعة بينها وبينه. فمن ينقذ الشعر من الوهم الشعري ويرجعه إلى حقيقته الأصلية، ويعيد إليه هويته وبريقه ودهشته وألقه؟

سأظل أتطلع بشوق عظيم لتنظيم حوارات فكرية متعددة وواسعة تجمع الشعراء، والنقاد، والأكاديميين، والمهتمين بالشعر، لمناقشة مستقبل النص الشعري الحداثوي وسُبل تطويره بما يحقق الاشتراطات المعيارية في تخليصه من تلك الثرثرة الغزيرة الموسومة دائماً بثنائية اتهامية وهي (المباشرة والتقريرية الركيكة) و(الغموض والرمزية الغرائبية). أتوق لذلك بعدد ما ينظم من أمسياتٍ وأصبوحاتٍ ولقاءاتٍ شعريةٍ لأصواتٍ كثيرةٍ تقولُ كلاماً كثيراً.. ولكن بعضه فقط ينتمي لجنس الشعر!!

فمن يستطيعُ تنظيم ذلك اللقاء الفكري الحواري؟

مقالات ذات علاقة

القبيلة العميقة

منصور أبوشناف

موجة حب الى الكدوة

منصور أبوشناف

كنيسة أم معبد للفاشية؟

المشرف العام

اترك تعليق