تجربتي في إذاعة “طرابلس العرب”
إذاعة المليون مستمع
مقدمة:
شكلت انطلاقة إذاعة طرابلس العرب بتاريخ 25/8/1423 ميلادية (1994) نقلة مهمة على صعيد البث الإذاعي المباشر وإعداد وتقديم البرامج المسموعة وفق سياسة الإذاعة التي استهدفت استقطاب المتلقي بلغة اختلفت كثيراً عن مفردات الخطاب الإعلامي السائد آنذاك في “إذاعة الجماهيرية العظمى” وكذلك “إذاعة صوت الوطن العربي الكبير” و”إذاعة القرآن الكريم” و”إذاعة صوت البحر المتوسط” بطبيعة اختلاف تخصصهم.
ومن خلال مشواري القصير في التعاون مع هذه الإذاعة fإعداد وتقديم البرامج أخترت أن أسجل هذا العرض كسردٍ توثيقي لتجربة ثرية بالمعرفة والصداقات والمنازعات القضائية، وتدوينها بكل التفاصيل والأسماء التي لازلت أذكرها بعدما لاحظتُ أن العديد من المبدعين يأتون ويغادرون دون أن يسجلوا مساهماتهم في المسيرة الفنية والإذاعية والأدبية والإعلامية في بلادنا تاركين فراغاً كبيراً في المعلومة المفيدة للباحثين والدارسين في مجال تأريخ وتوثيق الأحداث والمؤسسات والمناسبات الوطنية.
الجانب التشريعي لإنطلاقة إذاعة طرابلس العرب:
صدر قرار أمين اللجنة الشعبية العامة للإعلام والثقافة “سابقاً” رقم 168 لسنة 1423 ميلادية بشأن إنشاء إذاعة طرابلس العرب متضمناً 16 مادة. ويلاحظ على القرار أنه صدر في اليوم الذي بدأ فيه بث الإذاعة. حيث ذيل بتاريخ يوم 17 ربيع الأول الموافق 25 من شهر هانيبال سنة 1423 ميلادية (25 أغسطس 1994). كما يلاحظ أيضاً أنه تم تكليف أمين لجنة هذه الإذاعة قبل صدور قرار إنشاءها، حيث صدر قرار أمين اللجنة الشعبية العامة للإعلام والثقافة “سابقاً” رقم 100 لسنة 1423 ميلادية بشأن تكليف أمين لجنة إذاعة طرابلس العرب المحلية، بينما قرار تأسيس الإذاعة يحمل رقم 168 حسب تسلسل قرارات أمانة الإعلام التي كان يتولاها آنذاك أحمد محمد إبراهيم.
والتسمية القانونية لهذه الإذاعة كما نص عليها قرار الإنشاء في مادته الأولى هي “إذاعة طرابلس العرب” فقط دون أن يورد المشرع لفظة “المحلية” في نص القرار الصادر. وحددت المادة الثانية أهداف الإذاعة التي كان من بينها “نشر الثقافة الجماهيرية ومقاومة التلوث الثقافي” و”تعميق وعي سكان طرابلس السياسي والاقتصادي والاجتماعي”و”الارتقاء بالذوق الفني الاجتماعي وتأكيد جماهيرية الإبداع”.
الخطاب الإذاعي لإذاعة طرابلس العرب:
اعتمدت إذاعة طرابلس العرب خطاباً إذاعياً تميز في معظمه بالبرامج المباشرة التي لا تتم مراقبتها وإجازتها من قبل أقسام المراقبة بالإذاعة المسموعة المتعارف عليها في كل الإذاعات. كما أن اختيار مواضيع الحوارات في برامجها لا يتم تحديدها من لجنة الإذاعة بل يتولاه غالباً معد ومقدم البرنامج شخصياً وهو يتحمل كل مسؤولية في هذا الجانب فنياً وموضوعياً وسياسياً واجتماعياً. وقد أعطى هذا التوجه المتميز نكهة للإعلام الإذاعي المسموع وأعاد الثقة والاحترام للقدرات الإعلامية الوطنية في تقديم برامج تستقطب جمهور المستمعين وتحفزهم على المشاركة والتفاعل بين وسيلة الإعلام والمتلقي.
لجنة إدارة إذاعة طرابلس العرب:
يعتبر الأستاذ المرحوم عبداللطيف خليفة بوكر أول أمين للجنة إدارة إذاعة طرابلس العرب منذ تأسيسها، بل تمت تسميته رسمياً قبل صدور قرار إنشاءها، وظل يشغل هذا المنصب حتى وفاته بتاريخ 27/8/1997. وقد تحدث عن بداية هذه الإذاعة في لقاء أجريته معه، بعد حوالي نصف سنة من انطلاقة الإذاعة، نشر جزءه الأول بالعدد رقم (8) المؤرخ في شهر 5/1424 ميلادية من صحيفة الكلمة التي كان يصدرها نادي الترسانة الرياضي الثقافي الاجتماعي بسوق الجمعة بطرابلس، قبل توقفها إثر صدور قرار أمين اللجنة الشعبية العامة للإعلام والثقافة “سابقاً” رقم (13) لسنة 1424 ميلادية بوقف طباعة وإصدار جميع صحف الأندية، ولم ينشر الجزء الثاني من اللقاء حتى اليوم.
وفي ذاك اللقاء الصحفي أوضح الأستاذ أمين لجنة إدارة إذاعة طرابلس العرب المرحوم عبداللطيف بوكر ظروف انطلاق إذاعة طرابلس العرب قائلاً: (إذاعة “طرابلس العرب” المحلية ولدت تلبية لحاجة محلية وبناءً على توجيهات القائد بخصوص تجربة الإذاعات المحلية، وانطلقت في بث مسموع في مدينة طرابلس ضمن احتفالات العيد الخامس والعشرين لثورة الفاتح العظيم).
وحول الكيفية التي استطاعت بها الإذاعة توظيف الصوت الجيد والموسيقى الممتعة في برامجها لاستقطاب المستمع الذي حظيت بإعجابه قال: (إذا كان هناك من نجاح قد تحقق لهذه الإذاعة فإنه يرجع إلى كونها اعتمدت البرامج المباشرة منهجاً لها، وأداة اتصال مع المستمع والتجاوب مع رغباته وتفهم مطالبه وحاجاته. كذلك لجأت إلى البرامج الخفيفة والمتنوعة بما يغطي مختلف الأذواق والأمزجة ولمختلف الأعمار ولكلا الجنسين في لغة سهلة لا تعقيد فيها، وبخطاب إذاعي حاولنا أن يشارك المتلقي في صياغته، خاصة وأن المتلقي الليبي أصبح يتمتع بوعي سياسي واجتماعي وفكري رصين يمكنه من أداء دوره بدون تحفظ أو وصاية).
وعن عدد العاملين بالإذاعة والمتعاونين أوضح الأستاذ المرحوم عبداللطيف بوكر بأن ( إذاعة طرابلس العرب تعتمد على طاقم محدود من الإذاعيين والفنيين يقابله عدد يتزايد كل يوم من المتعاونين، استطاع أن يغطي عدة أجيال من الأدباء والمنتجين الإذاعيين. فمن الأستاذ علي مصطفى المصراتي والدكتور خليفة التليسي والمربية الفاضلة خديجة الجهمي والأديبة فوزية شلابي، مروراً بالإذاعيين المخضرمين أمثال ناصر عبدالسميع وحسني صالح ومحمد كشلاف إلى جيل الشباب أمثال عزالدين عبدالكريم والهادي حقيق وبشير بلاعو. إضافة إلى يوسف الشريف ولطفي عبداللطيف وفاطمة عمر وعبدالمجيد العكاري وهدى عبداللطيف وثريا محمد وحسام الدين التائب وبلقاسم البوسيفي وعبدالله مليطان وخالد المحجوب والباب سيظل مفتوحاً لكل المبدعين).
وبسؤاله كيف استطاعت “إذاعة طرابلس العرب المحلية” استقطاب هذا العدد الكبير من المبدعين في حين عجزت المؤسسات الإعلامية الأخرى عن ذلك وهل مرد هذا إلى أسباب مادية أم ماذا، قال المرحوم بوكر: (الاجابة عن هذا السؤال يمكن أن يتولاها شخص حيادي غير مسئول بإذاعة طرابلس العرب المحلية، ولكن لا أعتقد بأن الدافع المادي وحده هو السبب وراء ما تحقق للإذاعة لأنها في تنفيذ سياساتها تعتمد على تمويلها الذاتي وأن توظف الإعلام المسموع بالشكل الذي يمكنها من تمويل برامجها دون المساس بخطها الإعلامي المرسوم لها، ولدينا سلسلة من عقود الإعلانات السنوية مع عدد من الهيئات والمؤسسات والشركات العامة التي تتخذ من طرابلس مجالاً لإنتاجها وخدماتها. إلا أنني أوكد بأن إذاعة طرابلس العرب لم تعتمد نفس النمطية في التعامل مع المثقفين والمبدعين والتقنيين والتي كانوا يعاملون بها في السابق).
وعن قصة تسمية (إذاعة المليون مستمع) التي أطلقت على إذاعة طرابلس العرب المحلية أوضح المرحوم عبداللطيف بوكر أمين لجنة إدارة إذاعة طرابلس العرب المحلية ذلك قائلاً (من خلال تجربة تجاوزت سبعة شهور يمكن القول بأن “طرابلس العرب” دخلت كل بيت في منطقة طرابلس، وحتى ما أطلق عليها “إذاعة المليون مستمع” إنما هي تسمية أطلقها مستمع عبر برنامج مباشر، ثم كررها أكثر من مستمع، وكانت الغاية من إطلاق هذه التسمية هو أنها إذاعة موجهة إلى سكان مدينة طرابلس الذين يقدر عددهم بالمليون. كما أن مجال التغطية الإذاعية لهذه الإذاعة تمتد من الخمس شرقاً إلى زوارة غرباً وإلى غريان وجزء من الجبل الغربي جنوباً، فإذا ما حصرنا سكان هذه المنطقة لتجاوز عددهم أكثر من مليوني مواطن. وفي كل الحالات فإن هذه التسمية هي تسمية مجازية ويومياً تتأكد أكثر وأكثر لأننا مع كل يوم بث جديد نكسب مستمعين جدد).
أوائل إذاعة طرابلس العرب المحلية:
حول الإفتتاح الرسمي واليوم الأول لبث إذاعة طرابلس العرب يقول الإعلامي القدير عزالدين عبدالكريم (فيما يتعلق بالافتتاح الرسمي أتصور بأنه كان يوم الفاتح، واعتبرت الفترة التي سبقتها فترة بث تجريبي حسب ما فهمت من طرح المرحوم الأخ بوكر، ولي مع هذا الافتتاح حكاية، وهي التي سجلت بداية حضوري، حيث استدعاني هاتفياً الأخ المدير لحضور اجتماع صباح يوم 31/8 وكان قد حضر الاجتماع أركان الإذاعة في ذلك الوقت، وفوجئت بأن كل الإجتماع قد خصص لبند واحد وهو انضمامي للإذاعة، دون أن أكون مهيئأً لنقاش هكذا موضوع، وتم لفلفة الموضوع بقدرة قادر، حيث كلفت بالإفتتاح الرسمي لليوم التالي الذي كان يوم الفاتح، وكما ذكرت فإنه لا أحد قد أقترح ما تكون عليه فقرات البرنامج العام، الشئ الذي حتم علىّ عدم العودة الى البيت حتى اليوم التالي، حيث وجدت الأخت فاطمة عمر وباشرت البث منذ الإفتتاح وحتى منتصف النهار. ويمكنك تقدير الضغط الذي لاقيته في سبيل برمجة البث. ومن هنا بدأت الى أن أخذت الإذاعة بالتراجع شيئاً فشيئا)..
وقد صادفت الذكرى السنوية الأولى لإنطلاق إذاعة طرابلس العرب المحلية فترة إذاعة برنامجي الأسبوعي الصباحي المنوع (طرابلس تصبّح عليكم بالخير) الذي كنت أعده وأقدمه صباح كل يوم جمعة منذ بداية الإرسال الإذاعي في الساعة السابعة صباحاً ويتواصل حتى العاشرة لمدة ثلاث ساعات تقريباً.
وقبيل موعد برنامجي بأيام خطرت لي فكرة مراجعة شريط تسجيل اليوم الأول لإنطلاقة إذاعة طرابلس العرب المحلية، فطلبت من الأستاذ المرحوم خالد بن عيسى مدير الإدارة الفنية بالإذاعة آنذاك، إعادة الاستماع إلى أشرطة اليوم الأول. وفعلاً سلمني شريط البرنامج العام لليوم الأول وانطلقت به إلى قاعة التسجيل الثانية (قاعة المونتاج) واستمعت إلى البرنامج كاملا برغم رداءة التسجيل نتيجة سوء التخزين. ولأهمية التوثيق والتأريخ دونت وسجلت الأوائل الذين شهدوا إنطلاقة بث إذاعة طرابلس العرب المحلية في يومها الأول بتاريخ 25/8/1423 ميلادية (1994) فشملت مدونتي الأسماء والبرامج والأغاني التالية:
1 – أول مذيع: الأستاذ عبدالناصر عبدالسميع
2 – أول مذيعة: الأستاذة فاطمة عمر
3 – أول منشط للبرنامج المباشر “معنا.. معكم… معاً على الهوا”: الأستاذ الهادي محمد حقيق ثم التحق به في قاعة الإرسال كل من الأستاذ بشير بلاعو والأستاذة فاطمة عمر
4 – أول مسئول يتحدث في الإذاعة: أحمد إبراهيم أمين اللجنة الشعبية العامة للإعلام “آنذاك”
5 – أول موضوع يطرح للحوار في برنامج “معنا معكم معا على الهواء”: الإذاعات المحلية
6 – أول تحقيق مسموع كان حول : ماذا يجب أن تقدم إذاعة طرابلس العرب في برنامجها العام؟
7 – أول مواطن يتحدث في التحقيق: المواطن/ علي شبشابة
8 – أول اتصال هاتفي مباشر أجرته المستعمة/ رانية لطفي
9 – أول فنان يتحدث في اتصال هاتفي بالإذاعة: الفنان حسن عريبي
10 – أول ضيف بحجرة بث إذاعة طرابلس: الأستاذ سعيد السراج
11 – أول فني إرسال في اليوم الأول لإذاعة طرابلس: المهندس نورالدين صويد
12 – أول أغنية أذيعت بالإذاعة : “يا بيت العيلة يا عالي” للفنان محمود الشريف
مشواري مع إذاعة طرابلس العرب المحلية:
كنت أجري لقاءً صحفياً مع المرحوم الأستاذ عبداللطيف خليفة بوكر بصفته إعلامياً ورياضياً ودبلوماسياً لنشره في صحيفة الكلمة التي كان يصدرها نادي الترسانة الرياضي الثقافي الاجتماعي بسوق الجمعة. حيث أعددت مجموعة من الأسئلة وحملتها إلى مدير مكتبه الأخ الشريف الهوني وعدت في التاريخ المحدد للمقابلة لإستلام ردوده وطرح بعض الأسئلة المباشرة واللقاء به شخصياً في مكتبه. رحب بي برفقة زميليّ في صحيفة الكلمة عبدالمنعم رياض سوف الجين ومحمد الفرجاني وتناقشنا حول بعض مواضيع الساعة التي كانت تشغل الجمهور الرياضي باعتباره كان رياضياً وإدارياً عمل في هذا المجال سنوات عديدة على الصعيد الوطني والعربي. بعدها أطلعني على بعض إجاباته وسلمني ردوده مطبوعة على جهاز الحاسب الآلي مع بعض التعديلات بخط يده، لازلت أحتفظ بها حتى تاريخه. وخلال الحوار عن إذاعة طرابلس المحلية ذكرت له بأنني كنت قد تعاونت في سنوات سابقة مع إحدى الإذاعات الوطنية وتلقيت دورة في فن التقديم الإذاعي وعملت مذيعاً لفترة قصيرة، فالتقط هذه المعلومة وعرض علي بأسلوب وإصرار مشجع الالتحاق بإذاعة طرابلس العرب المحلية فأبديت موافقتي، وعلى إثرها قام بتسجيل بياناتي ورقم هاتفي وطلب مني ضرورة الاتصال بالأستاذ خالد بن عيسي للبدء في الترتيبات الإدارية.
لم أكن اعرف الأستاذ المرحوم عبداللطيف بوكر شخصياً قبل هذا اللقاء الذي تطور وتواصل عبر مسيرة العمل بإذاعة طرابلس العرب المحلية التي كان يقودها، حيث لمست منه أثناء العمل بالإذاعة كل التشجيع والدعم والمتابعة والحرص على تطوير الذات والمؤسسة الإذاعية من خلال ذلك.
وحين ذهبت لاستلام رسالتي المؤرخة في 13/5/1424 ميلادية (1994) من المرحوم خالد بن عيسى بمكتبه بمقر الإذاعة عاتبني على تأخري في الاتصال به والحضور إليه لأنه تلقى معلومات مبكرة من المرحوم عبداللطيف بوكر بانضمامي وتكليفي بالعمل بإذاعة طرابلس العرب المحلية. وفعلاً كنت قد تأخرت حوالي أسبوعين عن الذهاب لمراجعة الإذاعة وترتيب برنامج التعاون معها نظراً لبعض المشاغل والالتزامات في عملي الأصلي. وحين ذهبت في مساء ذاك اليوم لاستلم رسالتي المشار إليها أعلاه بمكتب المرحوم خالد بن عيسى أحضر معاونه الأخ أسامة قنيوة ورقة وقال إن الأستاذ عبداللطيف بوكر قد بعثها بشكل عاجل طالباً تسجيلها فوراً، فقدمها لي المرحوم خالد بن عيسى وطلب مني قراءتها وتسجيلها. وفعلاً أخذني إلى قاعة التسجيل بعد أن كلف أحد فنيي الصوت لتسجيلها، على ما أذكر أنه كان المهندس خالد الزواوي، ودخلت حجرة التسجيل العازلة للصوت، أحكمت إغلاق الباب وجلست على الكرسي بكل هدوء لأراجع لغة النص المكتوب وتصحيحها لغوياً وإعدادها إذاعياً وتقسيمها حسب نبرات ومساحة صوتي، وقمت بتعديل لاقط الصوت الذي أمامي على الطاولة ووضعت السماعتين على أذني وجربت الصوت مع الفني وهيئت نفسي للبدء. وبعد إشارة البداية من الفني الجالس أمام أجهزته خلف الفاصل الزجاجي الذي بيننا انطلق صوتي لأول مرة في إذاعة طرابلس العرب المحلية إذاعة المليون مستمع. أكملت القراءة القصيرة وتلقيت إعجاب ومباركة الحاضرين بحجرة التسجيل وبعد بثها في ذاك اليوم بوقت قصير اتصل بي المرحوم عبداللطيف بوكر شخصياً مباركاً ومهنئاً فظلت كلماته عبر الهاتف في أذني سنين عديدة.
في الطريق بعد خروجي من مبنى إذاعة طرابلس العرب المحلية حاملاً رسالة تكليفي بالعمل والتعاون معها أحسست بأنني مقبل على تجربة جديدة ومسؤولية كبيرة لإثبات قدراتي الإذاعية والمساهمة في توصيل الرسالة الإعلامية. كنت أتسلح بحب المغامرة وثقافة وتجربة بسيطة في الكتابة والتواصل مع عالم الصحافة ولكن كان تخصصي العلمي في مجال عملي بعيداً جداً عن عوالم الإذاعة والإعلام. فأنا تخرجت من قسم الأرصاد الجوية بكلية العلوم وأمارس عملي في مجال تحوير الطقس والتنبؤات الجوية وزراعة السحب لغرض زيادة هطول الأمطار وبالتالي كنت أحاور نفسي بنوع من التحدي اللذيذ لخوض التجربة وترك بصمة إيجابية في هذه المهمة.
وتقديراً لظروف عملي الرسمي وإلتزامي به فقد اتفقت مع الإذاعة على أن تكون فترات تواجدي وتعاوني معها يوم العطلة الأسبوعية صباحاً أو في الفترات المسائية بحيث لا يتعارض حضوري للإذاعة مع دوام عملي الأساسي. وبدأت بتقديم برنامج (صحف الصباح) و(نشرات الأخبار) ليوم الجمعة وتسجيل بعض البرامج التي كان يعدها بعض الزملاء إلى أن تقدمت باقتراح للمدير التنفيذي للإذاعة المرحوم خالد بن عيسى لإعداد حلقة بمناسبة اليوم العالمي للبيئة الذي يوافق الخامس من شهر يونيو (الصيف) من كل عام وقد تصادف بعد حوالي أسبوعين من بداية عملي بالإذاعة، وتمت إجازة العرض وانتقلت مع أحد فنيي التسجيل الخارجي وهو الأخ سالم الحمروني لتسجيل بعض اللقاءات والتنسيق مع المركز الفني لحماية البيئة (آنذاك) لاستضافة بعض المختصين في هذا المجال.
بعد هذا البرنامج الذي بث مباشرة على الهواء لمدة ساعتين ورافقتني فيه مهندسة الصوت المميزة الأخت كريمة المازوزي اكتشفت بأن نفسي الإذاعي، ورصيدي المعلوماتي، وحضور شخصيتي وقدراتي على الحوار مع ضيوف البرنامج، وأسلوب ردودي على المستمعين المشاركين بالهاتف تؤهلني لتقديم برامج هادفة في مضمونها ومميزة في أسلوب طرحها ولغتها، فرافقت زملائي من المذيعيين الذين سبقوني بالإذاعة وهم ( خالد المحجوب وحسام الدين التائب وأبوالقاسم البوسيفي وصلاح بلعيد والمرحومة جنينة السوكني وهدى عبداللطيف) إلى جانب العديد من الأسماء التي كنت أستمع إليها فأتطلع إلى مشاهدتها والتعلم من أداءها وخبراتها مثل (عزالدين عبدالكريم وعبدالله مليطان والهادي حقيق والمرحوم سعيد السراج والمرحوم محمد كشلاف والمرحوم خالد بن عيسى والمرحوم لطفي عبداللطيف وبشير بلاعو وعبدالرحمن محمد وعبدالمجيد العكاري وأحمد عمران وأحمد الحريري وفاطمة عمر وعويشة الخريف وعبداللطيف المهلهل).
وعلى إثر بث تلك الحلقة أدرج المرحوم عبداللطيف بوكر اسمي في الشهر التالي ضمن معدي ومقدمي البرنامج اليومي المشهور (معنا… معكم.. معاً على الهواء) فقدمت حلقتي الأولى مساء يوم 2/7/1424 ميلادية وكانت بعنوان “شبكة الغاز بمدينة طرابلس” استمرت لمدة ساعتين واستضفت فيها الأخوة من اللجنة الشعبية للمرافق بطرابلس ومدير الإدارة التجارية بشركة البريقة لتسويق النفط. وقد رافقني في هذه الحلقة وما بعدها من حلقات هذا البرنامج مهندس الصوت سالم الحمروني الذي كان صبوراً محبوباً من زملائه يملك ذائقة فنية وسعة صبر مكنتنا من التعاون والتواصل عبر كل حلقات هذا البرنامج الذي رسخ علاقة شخصية بيننا أساسها الاحترام والتقدير. وقد ترافقنا معاً في تقديم عدد (41) حلقة من هذا البرنامج تواصلت لمدة 120 ساعة إذاعية مباشرة على الهواء وغيرها من البرامج المسجلة الأخرى التي سلطت الضوء على بعض المناشط الثقافية والأحداث والمناسبات المختلفة مثل المولد النبوي الشريف وذكرى أسر السفينة الأمريكية فيلادلفيا بمدينة طرابلس ومعرض الفنان التيجاني زكري وغيرها من الحلقات.
وأثناء تواجدي يوم الجمعة من كل أسبوع لإفتتاح بث الإذاعة وقراءة صحف الصباح ونشرة الأخبار لاحظت أن البرنامج العام لا يتضمن برنامج (صباح الخير طرابلس) الذي كان يعده ويقدمه يومياً الزميل بلقاسم البوسيفي. فعرضت على المرحوم خالد عيسى المدير التنفيذي فكرة إعداد برنامج صباحي ليوم الجمعة فوافق على ذلك واقترحت تسمية برنامجي (طرابلس تصبّح عليكم بالخير) الذي رافقني فيه مهندس الصوت المرحوم نورالدين صويد منذ بداية بثه بتاريخ 11/8/1995 وحتى أخر حلقاته بتاريخ 24/5/1996 وقدمنا معاً عدد (38) حلقة صباحية كانت منها (12) حلقة بمدة 60 دقيقة والبقية بمدة 120 دقيقة، ولم يتوقف هذا البرنامج إلا خلال شهر رمضان المبارك من تاريخ 19/1/96 وحتى 20/2/1996. وقد وافق بث هذا البرنامج ذكرى انطلاقة الإذاعة في 25/8/95 وذكرى الفاتح من شهر سبتمير في 1/9/95 فاستمرت الحلقتان الخاصتان بهاتين المناسبتين مدة 180 دقيقة متواصة على الهواء أي ثلاث ساعات لكل حلقة. فكان أن غطى هذا البرنامج مساحة زمنية قدرها 35 ساعة إذاعية مباشرة تقريباً.
أما برنامج “معنا.. معكم… معاً على الهواء” فقد استمر إعداده وتقديمه بالتناوب بين الزملاء المذيعين يومياً في الفترة المسائية حتى تاريخ تركي للإذاعة مع ملاحظة أن الأستاذ الهادي حقيق عندما استلم مهمة إدارة البرامج بالإذاعة قام بتغيير موعد بث هذا البرنامج إلى الفترة الصباحية الأمر الذي لم يرق للعديد من الزملاء المذيعين الذين كانوا يتناوبون في تقديمه فتصادموا مع الأستاذ الهادي حقيق وألبوا عليه العديد من المستمعين وشنوا معاً حملة شرسة أذيعت أحداثها على الهواء من خلال اتصالات هاتفية مبرمجة، فأعيد البرنامج إلى موعده المسائي السابق بعد شهر واحد فقط وتمت تنحية مدير البرامج بالإذاعة لهذا السبب وأسباب أخرى أساسها الصراع على المناصب الإدارية مثلما يحدث في العديد من المؤسسات الوطنية واكتفي بمواصلة تقديم برنامجه التراثي الممتع (الكلام الزين) الذي قدمه مرئياً فيما بعد عبر شاشة قناة راديو وتلفزيون العرب ونال استحساناً عربياً كبيراً.
وحتى لا أحدث إرباكاً في الخارطة الإذاعية التي تم اعتمادها لهذا البرنامج لمدة شهر واحد فقط، تعاونت في تقديم وتنشيط عدد 4 حلقات خلال الفترة الصباحية، الحلقة الأولى كانت بتاريخ 5/11/1995 وتناولت “مشكلة المرور في مدينة طرابلس” والحلقة الرابعة بتاريخ 26/11/1995 وتضمنت لقاء مع الأخوة من نقابة الذهب والمعادن بمدينة طرابلس لتسليط الضوء على تقنيات وفنون صناعة الذهب وتجارته، بعد ذلك تمت إعادة البرنامج إلى توقيته المسائي السابق وواصلت تقديم حلقاته.
وخلال حلقات هذا البرنامج الخدمي استضفت العديد من المثقفين والفنانين والمسؤولين والمختصين لمواجهة المواطن والرد عن تساؤلاته واستفساراته وحل بعض المشكلات وقد تبين لي أن المسؤول الليبي لا يقول كل الحقيقة أمام لاقط الصوت أثناء اللقاء الإذاعي ويتهرب من الأسئة الحساسة التي تضعه في موقف محرج حيث لا يستطيع الاعتراف بقصور مؤسسته وعدم قدرته على تحقيق أهدافها فيلجأ إلى التهرب بكلمات مبهمة وردود غير صادقة، فاخترت أن أتوقف عن استضافة المسؤولين وفتحت من خلال هذا البرنامج ملفاً اسمه (ملف الأخلاق) استعرضت فيه مواضيع “الأمانة، الصدق والصراحة، التعاون، الكلمة الطيبة، الإيثار، التضحية، الإصلاح بين الناس، أداب الطريق، الجيران وأداب الجيرة، الرحمة والتراحم” وقد برزت من خلال مشاركات المستمعين العديد من أسماء الطلبة والمحاميات وربات البيوت والأساتذة الأجلاء الذين داوموا على متابعة هذا البرنامج والمشاركة والمساهمة فيه بمداخلات موضوعية راقية بشكل ملحوظ حتى أن الصحافة تناولته وأثنت عليه.
ولعل أبرز ما عايشته أثناء الإعداد لحلقات برنامج ” معنا… معكم… معاً على الهواء” من أحداث ومواقف هو التحدث مع الدكتور عبدالعزيز مرسي أمين الشركة العامة للحاسبات (آنذاك) خلال أسبوعين ثلاث مرات لساعات طوال بمكتبه قبل أن استضيفه في حجرة الإذاعة على الهواء وذلك لما تضمنته الحلقة التي استضفته فيها بتاريخ 6/1/1996 بعنوان “التقنية والكمبيوتر والمستقبل” واستمرت لمدة 150 دقيقة من تشويق في رسم صورة لمستقبل الكتروني عبر عوالم الشبكات الالكترونية التي صارت نمط حياتنا في الوقت الحالي. كما أن الحلقة التي قدمتها بتاريخ 5/11/1995 حول مشكلة المرور في مدينة طرابلس واستضفت فيها مدير مرور طرابلس العقيد جمعة عمران (آنذاك) استغرق الإعداد لها والحصول على الموافقات الأمنية أكثر من شهرين وتم ذلك بمساعدة أحد المواطنين مستمعي إذاعة طرابلس المحلية الأخ نجم مصطفى الذي بذل مجهوداً يشكر عليه من أجل الترتيب لهذه الحلقة الحساسة.
أما برنامج ( أسواق طرابلس) فكان عبارة عن فكرة من مدير إدارة البرامج الأستاذ الهادي حقيق، اقترحها على الأستاذ محمد كشلاف رحمه الله إلا أنه اعتذر لظروفه الصحية فطلب مني إعداده وتقديمه فقبلت ذلك. وهو لم يحدثني عن مفردات أو تفاصيل البرنامج وأسلوبه، فاخترت أن يكون في أسواق طرابلس القديمة…سجلت ثمانية حلقات تجولت فيها في الأسواق التالية: سوق القزدارة، سوق الصياغة، سوق الحوت، سوق الحرير، سوق العطرية، سوق المشير، سوق الرباع، سوق رواق باب الحرية “ماريوتي”. كانت حلقات جميلة نالت إعجاب العديد من المستمعين ومنهم من اتصل بالإذاعة وطلب نسخاً مسجلة منها.
كما قدمت خلال شهر رمضان المبارك برنامج (ورقات مطوية) وهو قراءة لمختارات من كتابات الأستاذ محمد الاسطى التي نشرت بنفس العنوان. وقد استأذنت من صهره الأستاذ سعد مجبر قبل الشروع في تسجيل الحلقات فوافق بكل سرور ودعم وتشجيع. كانت الورقات ممتعة جداً ومعبرة عن فترة مهمة من تاريخ مدينتي طرابلس ومعاناتها من جور الأتراك والطليان والإنجليز.
العلاقة مع المستمعين:
المواضيع التي كنت أختارها لبرامجي كانت تحظى بقبول طيب لدى المستمعين فتواصلوا معي بشكل رائع. منهم المحامية والمعلمة وربة البيت والطالبة والمهندس والموظف وقدموا مساهمات جديرة بالاحترام في إثراء الحوارات على الهواء. كما أن رسائلهم البريدية التقليدية (قبل انطلاق رسائل البريد الإلكتروني) كانت تحمل العديد من المقترحات والأفكار الرائعة. كنت استقبل تلك الرسائل بكل ود وأرد على كل من راسلني بشكل جعل إحدى الصحفيات تعتبرني أول منشط يقوم بالرد على رسائل مستمعيه. وقد أكدت لهذه الصحفية في لقاء أجرته معي بالقول (… إن كنت أول منشط يقوم بهذا فالحمد لله على هذا…ولكن لابد للمنشط أن يقدر اهتمام المستمع… ويقدر الوقت الذي خصصه هذا المستمع لمتابعة البرنامج…والكلمات التي كتبها… والرحلة أو المشوار الذي قام به إلى مكتب البريد لوضع رسالته التي وصلت إلى المنشط… هذا جهد إنسان يجب أن نحترمه ونبادله نفس الاهتمام، وأيضا نفس التعب.. فعلا كل رسالة حملت عنوان مرسلها رددت عليها برسالة… وهذا أراه حق المستمع تجاهي… وأنا أضعه دائماً في اولويات الإعداد للبرنامج لأنه هو الإنسان الذي أخاطبه وهو الذي يكمل حلقة التألق والإبداع للمؤسسة الإعلامية عموماً).
ومن بين نماذج رسائل المستمعين يقول المستمع المهندس أمجد عبدالقادر اللافي في رسالته المؤرخة في 15/8/1996ف (… تلقيت رسالتك بتاريخ 10/8/1996 التي إن دلت على شيء ألا وهو أن شخصكم الكريم رجل مثقف ونبيل وبارك الله فيك على كلماتك الطيبة نحوي ووفقنا الله لما يحبه ويرضاه. وأعلمك بأنني بعث إليك برسالة رداً على رسالتك الكريمة الراقية في المضمون والمعنى وأتمنى أن تكون قد وصلت إليك…).
أما المستمعة عاشقة طرابلس الأخت انتصار خليفة محمد فكتبت في رسالتها بتاريخ 11/4/1996 تقول (…بالفعل سرني وأسعدني خطابك. صدقني لم أكن اتوقع أن يصلني رد من إذاعي، وطبعاً هذه بادرة طيبة وخطوة جميلة نحو تحقيق أفضل إذاعة. بصراحة قلمي عاجز عن كتابة كلمات المديح والشكر تجاه ما تقدمونه من برامج…).
وللرد على الكم الهائل من الرسائل التي كانت تصلني يومياً أعددت صياغة موحدة (كربونية!) أبعتها لكل المستمعين لأنني كنت لا أجد الوقت الكافي لكتابة رسالة خاصة لكل مستمع على حدى، ولو فعلت ذلك لاحتجت إلى ساعات طوال للرد على الرسائل كلها، ولازلت أحتفظ ببعضها حتى الآن. ولكن للأسف تلك الرسائل الكربونية لم تنل رضى العديد من هؤلاء الأحبة الذين طالبوني بالكتابة الخاصة لكل واحد منهم وبخط يدي بدلاً من خطوط الكتابة بجهاز الحاسب الآلي، الأمر الذي تعذر علي فعله!!
المتابعات الصحفية:
كانت بعض الأقلام الصحفية تتابع العديد من برامج إذاعة طرابلس العرب المحلية وتنشر بعض الملاحظات أو الانتقادات حول ذلك. من بين الصحف التي تابعت برامجي صحيفتا الجماهيرية والزحف الأخضر التي أجرت معي عدة لقاءات. وكتبت صحيفة الزحف الأخضر يوم الخميس 2 ذي القعدة الموافق 21 من شهر الربيع 1425 ميلادية في صفحتها الأخيرة تقول (من البرامج الجيدة في خارطة برامج إذاعة طرابلس المحلية التي تكتسب بعداً اجتماعياً وتربوياً البرنامج الذي يقدمه الزميل يونس الفنادي مساء كل يوم ثلاثاء. هذا البرنامج يطرح العديد من المسائل التربوية الهامة التي تمس حياتنا العامة والخاصة من حيث السلوك والمناخ الاجتماعي الذي نعيشه. ويتميز البرنامج بالمداخلات الهادفة من قبل الأخوة المستمعين).
أما صحيفة الجماهيرية فقد نشر الصحفي نوري ميلاد سالم في العدد 1655 بتاريخ 24/9/1424 ميلادية وعلى الصفحة 15 في زاويته يقول (… تابعت حواراً ساخناً استمر لمدة ساعتين ونصف عبر أثير إذاعة طرابلس المحلية وبالتحديد في برنامج “معنا معكم معاً على الهواء” تناول صحف الأندية من خلال ملف طرحه مقدم البرنامج الزميل الإذاعي يونس الفنادي بعنوان “هل حقاً فشلت صحف الأندية”… الزميل مقدم البرنامج وضيفيه كانوا على مستوى عال من المناقشة.. ومع تحية لمقدم البرنامج على تقديمه لهذه الحلقة المميزة وفتحه لهذا الملف الهام أود أن أهمس في أذنه بأن العنوان لم يتناسب مع الطرح….).
دعوى قضائية ضد إذاعة طرابلس العرب:
بعد مساهمة معتبرة احترمها الكثير من المتابعين والإعلاميين الذي شهدوا بالجهد الواضح الذي كنت أبذله من أجل الرقي بالمؤسسة الإعلامية التي أحببتها وتعاونت معها فقدمت لها الأفكار الجميلة التي نالت رضى واستحسان جمهور المستعمين من خلال المواضيع التي كنت أطرحها في البرامج المختلفة وتميزها بخطاب راقي عقلاني رصين يمزج الفن بالتاريخ والفكر بالحس الثقافي واللغة الثرية بالمعاني والمضامين التي تحقق هدف الإذاعة وتنسجم مع رسالتها الأساسية، انتهت علاقتي بإذاعة طرابلس العرب داخل قاعة محكمة جنوب طرابلس الإبتدائية عندما رفعت الدعوى المدنية رقم 1057/97 ضد أمين لجنة إدارة إذاعة طرابلس المحلية وأمين اللجنة الشعبية العامة للإعلام والثقافة بصفتيهما، لمطالبة الإذاعة بتسديد مستحقاتي المالية المترتبة نظير تلك الجهود والبرامج التي أعددتها وقدمتها بعد أن فشلت المطالبات واللقاءات والمراسلات لتسويتها ودياً بعد وفاة الأستاذ عبداللطيف بوكر وتولي غيره تسيير الإذاعة.
وتداولت محكمة جنوب طرابلس الإبتدائية قضيتي ضد إذاعة طرابلس العرب المحلية وانتدبت الأستاذ حسن محمد البوعيشي خبيراً مالياً معتمداً لديها لتقدير المطالبات المالية التي أوردتها في صحيفة الدعوى، وبعد أن أطمأنت هيئة المحكمة إلى تقديرات الخبير في تقريره الذي رفعه للمحكمة بتاريخ 23/3/1998ف، أصدرت حكمها رقم 97 لسنة 1999 بتاريخ 10/2/1429 ميلادية (1999) ونصه (باسم الشعب، حكمت المحكمة حضورياً بإلزام المدعي عليهما متضامنين بأن يدفعا للمدعي مبلغ ثلاثة عشر ألفاً وتسعمائة واثنان وأربعون ديناراً وخمسمائة درهم مع شمول الحكم بالنفاذ المعجل وألزمت المدعي عليهما بالمصاريف).
صدور هذا الحكم أثلج صدري من ناحية وآلمني من ناحية ثانية. فهذه القضية التي تعتبر أول قضية ترفع ضد إذاعة طرابلس العرب المحلية أمام المحاكم اعتبرها البعض خاسرة منذ بدايتها، لأنهم راهنوا على أن الدولة تحمي كافة مؤسساتها بكل حصانات البيروقراطية الإدارية وحسابات الفوضى والإهمال وأخلاقيات المحسوبية والواسطة والرشاوي البعيدة عن سلطة القانون وقوته وعدله وشفافيته. فجاء الحكم مفنداً هذا الانطباع وصرح علانية بأن قوة القانون لازالت فاعلة في هذا المجتمع وهي التي أنصفتني، وحز في نفسي أن الإذاعة لم تعطني حقي أو تقدر أعمالي وجهودي وبرامجي وأوقاتي التي كنت استقطعها من وقت أسرتي وأطفالي فخذلتني وقادتني إلى محاكمتها أمام القضاء الليبي الذي أنتصر للحق دون غيره. وهكذا استقبلت هذا الحكم بفرحة حزينة امتزجت بها نشوى الانتصار بمرارة الإحباط واليأس من المؤسسة الإذاعية.
ولم تقبل الإذاعة بهذا الحكم وتستجيب لتنفيذه وصرف مستحقاتي المالية لديها بل قررت الطعن عليه بطريق الاستئناف لدى الدائرة المدنية بمحكمة استئناف طرابلس عن طريق دفاعهما (إدارة القضايا فرع طرابلس) ورفعت ضدي الدعوى رقم 968/45 ق التي تداولتها محكمة الإستئناف ورفضتها بعد ذلك بحكمها رقم 435/46 ق الصادر بتاريخ 27/1/2000 ف الذي نصه (باسم الشعب، حكمت المحكمة بقبول الإستئناف شكلاً، وفي الموضوع برفضه وتأييد الحكم المستأنف وألزمت رافعه بالمصاريف).
وبعد صدور هذا الحكم بفترة قصيرة تم حل أمانة اللجنة الشعبية العامة للإعلام والثقافة ونقل تبعية إذاعة طرابلس العرب إلى اللجنة الشعبية لشعبية طرابلس بعد إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وهكذا عجزت عن تنفيذ الحكم والحصول على مستحقاتي.
وفي بداية سنة 2002 غادرت ليبيا وسافرت إلى بريطانيا لإتمام دراستي العليا لنيل درجة الماجستير في مجال تخصصي العلمي وعدت سالماً غانماً في أواخر 2004 مسيحي وكلي إصرار على تنفيذ الحكم الصادر لصالحي ضد إذاعة طرابلس العرب المحلية والحصول على مستحقاتي المالية لديها فتقدمت بطلب إلى المحكمة العليا مستفسراً عمّا إذا كانت الإذاعة قد طعنت في حكم محكمة استئناف طرابلس المشار إليه خلال المدة القانونية اللازمة للطعن والتي كنت فيها متغيباً خارج البلاد، فسلمتني المحكمة العليا شهادة بعدم الطعن أمام المحكمة العليا بتاريخ 27/12/2004م تفيد أنه (بعد مراجعة سجل قيد الطعون المدنية بالمحكمة العليا تشهد إدارة التسجيل بهذه المحكمة بأن الحكم المذكور أعلاه لم يطعن فيه حتى تاريخ تحرير هذه الشهادة). وبهذه الشهادة انتهت الإجراءات القضائية ضد إذاعة طرابلس العرب المحلية أمام المحاكم الوطنية وأصبح الحكم نهائياً لا يمكن الطعن فيه أو مداولاته مجدداً ولن تسقط حقوقه المالية بالتقادم عبر السنين.
دروس مستفادة:
العمل الإذاعي معايشة ومتابعة يومية للأحداث على إختلافها وتنوعها سياسياً ورياضياً وثقافياً، وتقاربها وتباعدها محلياً وإقليمياً ودولياً. تكمن ميزته في الراحة النفسية التي تغمر الإذاعي المبدع حين يشعر أنه يقدم في إنتاجه ما يفيد المتلقي ويسره ويرضى به عنه.
فالعمل الإبداعي هو التزام ذاتي من قبل المثقف بالرسالة الملقاة على عاتقه وقدراته على توظيف وسائل الإعلام في التواصل مع جمهور المتقبلين لتفعيل هذه الرسالة السامية وتجسيدها سلوكاً وفكراً في حياتهم بأسلوب لا يفارق في صياغته عناصر الجاذبية والتشويق والإرتباط المتبادل بين الطرفين بعيداً عن تكرار الأسلوب النمطي في سير البرامج الأمر الذي يبعث الملل لدى المتلقي لأنه يشعر أن من حقه المطالبة بالجديد بشكل دائم ومستمر.
ولكن أثناء العمل على إنجاز هذه الرسالة الإعلامية تواجه الإذاعي العديد من الصعوبات والمعوقات التي من أبرزها إنعدام منظومة العلاقات والمعلومات التي تسهل الحصول على المعلومة وتفاصيلها وعناصرها الفاعلة، وسرعة الاتصال بالمعنيين بالحدث الإعلامي وترتيب إجراء التغطيات اللازمة لحظة حدوثه أو ولادته. وأيضا صعوبة التنسيق مع المسؤول في المؤسسات والإدارات الوطنية للتسجيل الخارجي وعدم إلتزامه بدقة المواعيد عند دعوته للحضور إلى قاعة البث بالإذاعة، وبذلك يصبح لزاماً على المذيع أو المنشط أن يفكر في البديل أو الاحتياطي المناسب والجيد عند تخلف أو عدم إلتزام الضيف بالحضور في الموعد المحدد للحوار المباشر داخل قاعة البث بالإذاعة.
وعلى الإذاعي الذي يختار الانخراط في هذا المجال أن يؤمن بشكل قطعي أن وقته لن يصبح ملكه الخاص بل يصير ملك المتلقي، وعليه الالتزام بمواعيده معه مهما كانت الظروف، لأن المتلقي لا يعترف بعذر المناسبات الاجتماعية الخاصة، ولا حالات المرض البسيطة كنزلات البرد والزكام، ولا الظروف الجوية الممطرة أو الحارة، ولا عدم توفر وسائل المواصلات، ولا يقبل أي غياب أو تأخر في تأدية العمل أو تقديم البرنامج المدرج في الخارطة الإذاعية. فالإلتزام بمواعيد الحضور وتقديم البرامج الإذاعية شيء لا يمكن التهاون فيه لأن تأخير المذيع أو غيابه قد يربك سير البرنامج العام للإذاعة أولاً ويفقد مصداقية التزام الإذاعي مع المتلقي ثانياً.
العمل الإذاعي مدرسة في أهمية حساب الوقت وتقدير أهميته وقيمته، حيث تصبح الثانية بالنسبة للمذيع أو معد البرنامج أو فني الإرسال والتسجيل تعني الكثير الكثير بمقياس الزمن الإذاعي ويصبح من غير المسموح به ترك مساحات فراغ زمني مدته ثواني في البرامج الإذاعية ولابد من تغطيته بمادة إخبارية أو موسيقية.
إن العمل الإذاعي علمني المداومة على المطالعة المستمرة وتفعيل سرعة البديهة والتركيز بدرجة عالية أثناء الحوارات المباشرة على الهواء، والتنظيم والترتيب وحسن الإعداد والتنسيق الجيد والالتزام بالمواعيد الصارمة. ومن خلال العمل الإذاعي كوّنت شبكة كبيرة من العلاقات الودية الحميمية مع العديد من الزملاء في الوسط الإذاعي والصحفي والمؤسسات والقطاعات المختلفة. كما أن عملي والتصاقي بمصادر المعلومات والأخبار السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومتابعتها المستمرة جعل كنوز هذه المعلومات والخبرات تتدفق وتتراكم بشكل تصاعدي وبنسق سريع عبر المسيرة الإذاعية فصارت تثري الفكر وتنشط العقل وتبعث في النفس رغبة لمواصلة الجهد من أجل الابتكار والإبداع والتطوير رغم أوجه القصور البائنة في الإمكانيات والتشجيعات المادية والمستلزمات التقنية اللازمة لتأدية العمل الإذاعي.
خلال تجربتي في إذاعة طرابلس العرب لن أنسى كلمات التشجيع والإطراء التي تلقيتها من الأستاذين المرحومين عبداللطيف بوكر وسعيد السراج حيث كانا نموذجاً للإنسان التربوي والإعلامي المهني الخلوق المحفز والمشجع لكل قادم جديد. كما أن توجيهات المذيع المرحوم محمد كشلاف ستظل في أعماقي توجه بوصلتي إلى شواطيء الآمان في كل رحلة إبحار إلى عوالم الإذاعة.
ولا شك أنني مدين لكل الزملاء في إذاعة طرابلس العرب المحلية بمساحات عظيمة من الود ساهمت في ترسيخ تعاون مثمر بيننا أسهم بإضافة جميلة للمشهد الإذاعي. كما أنني مدين لكل المستمعين الكرام الذين فتحوا لي قلوبهم وعقولهم ونسجوا معي عبر الأثير علاقة روحانية صادقة تواصلت بشكل مباشر لعدة سنوات جميلة، وظلت مسجلة في أرشيف مكتبة الذكريات الخاصة.
شكر وتقدير: أتوجه بالشكر للصديقين العزيزين الأستاذ الإذاعي الهادي محمد حقيق والصحفي والإعلامي عزالدين عبدالكريم على اطلاعهما على هذا المقال التوثيقي قبل نشره، مثمناً لهما التشجيع والحفاوة التي استقبلا بها هذا العمل، وملاحظاتهما القيمة التي استفدت منها وسجلتها بكل أمانة.
___________________________________
* سبق نشر هذا المقال في صحيفة الشط وتم إعادة نشره اليوم بمناسبة العيد الواحد والعشرين للا ذاعة.
نشر بموقع ليبيا المستقبل