يوسف الغزال
أيام زمان قبل عصر التلفزيون وشاشات الهواتف الذكية، كانت الناس تتخذ من الطرقات مجالس لها للفُرّْجة على المارة، كانت الطرقات تمثل للناس شاشات مرئية تنقل لهم الواقع مباشرة، أو هي تمثل (تلفزيون الواقع) بلغة اليوم.
كنا أيام الطفولة والصبا، عندما نشعر بالوحدة أو نصاب بالملل، نخرج أنا وأخي عمر وأختي آمنة، قدام الحوش ونجلس على الدكانة أو (الركابة) نتفرج على الشارع وخاصة يومي الخميس والأحد، يكون الشارع مليان بحركة دائمة بين (الماشي والجاي).
رجال بعضهم يمسكون أحذيتهم في أيديهم ويسيرون حفاة الأقدام، كان بعض الناس يخافون على أحذيتهم أكثر ما يخافون على أقدامهم، وبعضهم يركبون الخيول أو الحمير أو البغال، لم يكن للسيارات ولا الدراجات وجود حتى آواخر الخمسينيات.
الشوارع أيام السوق تعُجّْ بالمشاهد العجيبة والوجوه الغريبة؛ كان الشارع يمثل لنا تلفزيون مجاني، كانت الفرجة على الطريق مصدر المتعة الوحيد فلا وجود لراديو أو تلفزيون غير تلفزيون الطريق، الذي يقدم لنا مشاهد متحركة حيّْة تتوالى أمامنا بصورة طبيعية بدون إخراج ولا مونتاج….
> المشهد الأول:
رجل طويل الوجه، وطويل القامة، يرتدي سورية (باصمه) وصدرية قديمة صفراء أصغر من مقاسه بكثير، تتبعه عنز سوداء يمسك بحبلها تسير خلفه وتصيح، خلف العنز ثلاثة جديان تتناقز في خفة ونشاط، يبدو أنه يقصد بها سوق الغنم لبيعها، اختفى المشهد في نهاية الشارع، ودخلنا نحن في خيال وبناء تصورات كثيرة حول العنز وصاحب العنز وما هو مستقبل الجديان. قال أخي عمر: هذه عنز مالطية حلاّْبة ضرعها كبير سوف يشتريها رجل غني سوف يذبح الجديان ويأكلهن بيش يقعد له الحليب يفطر به في الصباح. قالت آمنة: مسيكينات الجديات.
> المشهد الثاني:
كوكبة من الرجال يركبون على حمير مسرعة، عليها زنابيل محملة بالدحي في طريقهم للسوق الدحي، وتراهم وهم مستغرقين في هدرزة جادة، تصل لحد الخصام أحياناً ويتبعهم رجل أعمى وحذائه تحت إبطه يهرول بأقدام حافية، يمسك بتفر البردعة، ولا تفوته كلمة في الهدرزة.
> المشهد الثالث:
جمل يحمل شبكة حطب يقوده بدوي قوي البُنّْية له شنب أكبر من وجهه، بدون قميص يرتدي عباءة (على اللحم) صدره مليان شعر وطاقية حمراء تغطي أذنيه، في طريقه لرحبة الحطب، البادية تخصصوا في جمع الحطب، كانت الوديان مليئة بشجيرات القنديل والسدر والعنصيل واللمت والجلّْ التي تنمو بكثرة في البِرِّية القريبة.
> المشهد الرابع:
يظهر في أول الطريق (كارطون) يجره حمار صحراوي مليان دلاع جنزوري، وخلفه كارطون معبئ بالبطيخ والقلعاوي صاحب الكارطون الأخير فلاح من الغيران على رأسه (زمالة) بيضاء كبيرة عندما لاحظ جلوسنا على الطريق نزل من على الكارطون وقدم لنا قلعاوية صغيرة كهدية، شكرناه وقلت له إن شاء الله تربح يا عمي، فرح بي كثيرا وقال الله يَرَبّْحِكْ يا وليدي.ِ واصل الفلاح الطيب طريقة لسوق الخضرة، ونحن نواصل الفرجة مع أكل القلعاوي.
> المشهد الخامس:
امرأة عجوز عمياء تدعى (نوارة) يقودها من طرف ردائها طفل صغير، هذه العجوز معروفة للجميع إنها (غولة القوز) تسكن لوحدها في منطقة موحشة يسكنها جن مارد يسمى (شُخَصْ الخروبة) وتحيط بها سلسة طويلة من قيزان الرمال العالية، منطقة بكر لم يدخلها بشر يقال إنه مليئة بالذئاب والكلاب والشفش، وصيد الليل، وتحمل على ظهرها حزمة من الأعشاب الطبية لبيعها في سوق العطرية.
> المشهد السادس:
يمر من أمامنا موكب مهيب إنه الفقي حمد الشحومي يركب حماره الابيض وبردعة من الجلد أنيقة، عليها سجادة (كاتفا خضراء) يمسك بيده اليمنى شكيمة الحمار وباليسرى يحمل مظلة سوداء يحمي بها رأسه من الشمس في طريقه إلى مكانه المعتاد منذ سنين تحت أقواس سوق اللحم أو (المجزرة) ليمارس مهنة كتابة الحجابات والأحصنة لتحصين الناس من (العين) وشرور الحاسدين، والفقي حمد يده طويلة يُسبِبُ في الماء والهواء، يقال انه يتحكم في الجان الازرق، ويرصد شياطين الإنس من السحرة والمشعوذين، ويكتب الرقية الشرعية للمرضى والمهمومين والمسحوربن والملموسين بالجن والملبوسين بالعفاريت، ويقطع تبيعة المتبوع، يمر موكب الفقي نسرح أنا وإخوتي مع عالم الجن والعفاريت وهي تسبح في الفضاء وتطير، بعضهم يسكن في سابع سماء وبعضهم يسكن مرابط الحمير، يبتلع آخر الشارع الفقي حمد وحماره.
> المشهد السابع:
يظهر في أول الشارع بغل قوي البنّْية يركبه العم خليل المسلاتي بائع الزعتر والكليل يقال أن العم خليل يأتي من مسلاتة على بغله لبيع في مصراتة نباتات العطرية مثل الكليل والزعتر، أو الطبية مثل الروبيا والحرمل والفيجل والفليّْة وعشبة الخلعة والبردقوشة، بغل العم خليل تفوح منه رائحة النباتات الجبلية التي لا تنمو في مصراتة، يتجول العم خليل في شوارع القرية وهو ينادي بأعلى صوته (كليل) (زعتر).
> المشهد الثامن:
حمار قزم صغير الحجم يجلس عليه رجل طويل القامة تكاد رجليه تلامس الارض، إنه رجل طيب إلى حد الدروشة متخصص في بيع (الحلبة) و(الحبة السوداء) ويقال لها (الكمون الأسعد) ويعتقد هو كما يعتقد كل الناس أنها علاج لكل داء إلا الموت.
> المشهد التاسع:
بائع (القلال) بائع متخصص في الأواني المصنوعة من الفخار وخاصة الجرار، يقال أن البائع يأتي على حماره من الجبل الغربي ويسكن غار في جبل غريان.
> المشهد العاشر:
كارطون مليان نساوين يسوقه صبي صغير، قاصد حوش العرس الحمار المسكين يعاني من ثقل البضاعة و(القومة نازلة).
> المشهد الحاد عشر:
تاجر الدحي المتجول (الزميطي) رجل شكله يوحي بأنه منغولي ينطق الشين سين والخاء حاء، رجل طيب السريره، يتعرض للسخرية والمعاكسة خاصة من الصغار أو الصبيان، وعندما يتضايق (الزميطي) يتوقف عن الكلام بالعربية ويبدأ مسلسل السب والشتم باللغة الايطالية، يضع صندوق على رأسه الكبير، يتحرك بصعوبة بسبب عوج في ساقيه وكبر في أردافه، يشتري الدحي من القري، ثم يبيع حصيلة اليوم غداً في سوق الدحي، يجوب مصراتة حافي القدمين وهو يغني أغنيته المفضلة بصوته الركيك. (تربح يا خال تلقاني.. راني نطيح من العالي).. يكررها دون ملل حتى حفظها كل الناس عن ظهر قلب، دون أن يعرفوا من قالها ولا المناسبة التي قيلت فيها.