حكايات وذكريات : سيرة قلم 19
خلال دراستي بالسنة الثانية من المرحلة الثانوية بمعهد مالك بن أنس الديني.. نشرت بمجلة البيت العديد من الأعمال الأدبية الرصينة والهادفة.. منها قصتي (من ذاكرة دميم) التي.. سرقت مني فيما بعد ومثلت وعرضت بالتلفزيون الليبي دون علمي ودون موافقتي.
ونشرت بها أيضا.. مقالة مهمة عن مظفر النواب.. تحت عنوان: (محاولة لإيقاظ الضمير العربي: حوار شعري يعرض الجانب القومي في شعر مظفر النواب).. اعتمدت في إعدادها على كتابه الوحيد في ذلك الوقت: (وتريات ليلية).. وعلى أشرطة كاسيت لأمسياته الشعرية ببيروت وبنغازي.. وغيرهما من بواكير كتاباتي في الصحف والمجلات المحلية.
كما نشرت بها أيضا.. قصتي: (جنة الأمومة).. التي نشرتها إحدى طالبات قسم الإعلام باسمها في مجلتها (مشروع تخرجها).. وقد كنت وقتها طالبا بالصف الأول من التعليم الجامعي.. وقد أحضر لي أحد الأصدقاء مشروع تخرجها.. وقال لي: من حقك أن تشتكيها إلى قسم الإعلام.. فقلت له: تستحق الشكر لا الشكوى.. فهذا أكبر دليل على إعجابها بقصتي.
كما كتب في تلك السنة المباركة الطيبة العديد من الخواطر والقصص منها: (أنغام بلا وتر).. و(أحلام على الجدار).. وغيرهما.
لكن أهم ما كتبته في تلك الفترة.. خاطرة مؤثرة جدا عنوانها: (إلى دنيا اسمها الأم).. خاطبت من خلالها أمي (يرحمها الله تعالى) التي كانت من أشد المعارضين لذهابي للدراسة بمدينة البيضاء.. تلك الخاطرة الأقرب إلى نفسي.. كتبتها حينما أجبرتني ظروف الدراسة على الابتعاد عنها.. فاشتقت إليها كثيراً فكان أن كتبت لها هذه الرسالة.. التي نشرتها بمجلة البيت.. حينما كنت طالباً بالصف الثاني الثانوي.. وهأنذا اليوم أعيد نشرها مجدداً.. بعدما غيبتها الاقدار عنا.. واستبدلت جوارنا بخير جوار.. جوار رب العالمين.. اللهم اغفر لها وارحمها وعافها واعف عنها آمين.
إلى دنيا اسمها الأم :
اماه .. هنا في ديار الغربة.. ينبت القلب ازهار الشوق تتهادى مع رياح الحنين والذكريات وتمتد الجذور في الاعماق ويتفتح الزهر فأحن إليك وأبحث عنك.. فأراك في عيون الاطفال وابتسامتهم المملوءة ببراءة الطفولة وصدق الطفولة… تنشرين عطر المحبة في القلوب الحزينة وتزرعين البسمة في عيون الحيارى الباحثين عن مرافئ تطمئن عندها النفوس فتبعث الدفء فيها وتشيع الضياء.
أماه.. إنني على البعد أتوق اليك إلى ابتسامتك المشرقة.. التي تأتى من القلب كرسول صدق يمثل الطهر والنقاء.. ويدعو للحب والوفاء لتمدني بشحنات الأمل والتفاؤل.. فأشعر بقيمة عطفك وحنانك واتذكر كلماتك العذبة التي تسكبينها في أذني كل يوم.. فأحس بحاجتي إليك وإليها لتزول الكآبة عنى.. ولتغدو الحياة في عيني جميلة كملامحك المرسومة على جدار ذاكرتي.. وصادقة كحكاياتك التي تختلج الان في نفسى.. ونقية كنفسك التي ترسم لي طريق السعادة.. ورائعة كإحساسك بكل المعاني السامية التي تجعل منك نبعاً للحب والعطف.. يسقينا الود ويمدنا بالأمل.. فتنبت في نفوسنا بذور التصميم والعزم والثبات لمواجهة الحياة ومغالبة الصعاب.
أماه.. ما كنت أدرك جيدا أن الله قد جعل السعادة مرسومة على جبينك.. والفرح منقاد إلي بعطفك وحنانك.. ما كنت أدرك سر الهموم ومصادر الأحزان.. لأن الهم ما كان ليزورني وأنت بجواري.. وما كان الحزن لينتابني وأنت تسكبين السعادة في نفسى.. ولقد أدركت الآن في بعدى عنك.. أن هموم الحياة ومشاكلها تبتعد جميعها عنى بقدر اقترابك منى.. وها أنا اليوم أشعر بمرارة الحزن.. وهو يعتصر قلبي.. الذي لا يفتأ ينبض بحبك.. ويخفق من أجل سعادتك وهنائك.
أماه.. في اليوم ألف مرة أسافر.. عبر مساحة شوقي اليك أسافر.. امتطى جواد الفكر.. وأرحل في صحارى الخيال.. الممتد بامتداد الذكريات والرؤى والاحلام الجميلة.. وتمط اللحظات أرجلها وترحل معي.. لتشهد بنفسها موتها البطيء.. واسقاطها من حساب السنين.. واجدد التصميم لمواصلة الرحيل.. وتتجدد اللحظات وترحل معي.. فأطوى مساحة البعد التي تفصلنا.. لأراك هانئة سعيدة تنعمين بحياة كلها بهجة وصفاء.. فأعود من جديد وأسافر.
في اليوم الف مرة أسافر.. عبر مساحة حبى لك أسافر.. لأنك سر الحياة وبهجتها ونعيمها.. بقربك تصفو الايام كثيرا مما يشوبها ويخالطها.. وببعدك تفقد رونقها وبهاءها.. وتغدو مظلمة مكفهرة الوجه تبحث عن الضياء.. عن سر الوجود والبقاء.. عن جنة مليئة بالسعادة والنقاء.. عن دنيا أسمها الام.. !!!.
طالب بالصف الثالث الثانوي :
أثناء دراستي بالصف الثالث الثانوي.. التحقت للعمل كمتعاون بالفترة المسائية مع إذاعة البيضاء.. وكان مديرها الأستاذ/ عبد السلام بن خيال (يرحمه الله).. وكنت في كل يوم ارجع من المعهد إلى القسم الداخلي.. لأتناول وجبة الغداء وأستريح قليلا ثم أذهب إلى الإذاعة وأعود ليلا.
وبالإضافة إلى ذلك.. بذلت جهدا مضاعفا.. في حفظ الحزبين المقررين.. الذين أعتبرهما من أصعب مقررات الدراسة الدينية (بالنسبة لي).. بسبب أن ملكة الحفظ عندي ــ كما أشرت ــ ضعيفة جدا.. وكان بقية زملاء الدراسة يمتازون عني بحفظهم المسبق للقرآن الكريم في المرحلة الابتدائية من التعليم الديني.
لكن ورغم كل الظروف.. وبتوفيق من الله تعالى.. نجحت في تلك السنة بتقدير جيدا جدا.. وكانت تفصلني ثماني درجات فقط عن درجة الممتاز..
واستبشرت خيرا.. وفرحت على أن الأمل الذي ظللت أطارده لسنوات طوال صار قريبا جدا.. فلم تعد تفصلني سوى أشهر قليلة.. وأكون بعدها طالبا بقسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بمدينة البيضاء التي أحببتها.
نعم.. صار الهدف الذي تركت من أجله أهلي ومدينة وعملي.. والتحقت من أجله بالمعهد الديني.. قريبا جدا.. وكنت منه قاب شهرين أو ثلاثة.
ولكن.. قدر الله وما شاء فعل.. وكما يقول المتنبي: “ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدْرِكُهُ … تَجرِي الرّياحُ بِما لا تَشْتَهِي السُّـفُنُ”.
فقد كان صدور قرار إغلاق كلية اللغة العربية والدراسات الإسلامية بالبيضاء.. أسرع من الأشهر التي كانت تفصلني عن الهدف.. وحال ذلك القرار دون تحقيق أمنيتي.. وجاء تنسيبي إلى كلية القانون ببنغازي.. بدلا من كلية اللغة العربية والدراسات الإسلامية بمدينة البيضاء.. وحزنت لذلك كثيرا.
لكن.. الذي أدخل السرور إلى نفسي هو أنني في نهاية حقبة التعليم الديني.. أنني عدت إلى بيتنا.. عدت إلى أمي لأقدم لها حصيلة ما جمعته من تعاوني مع إذاعة البيضاء في الفترة المسائية.. كي تحقق حلمها الأول في الذهاب إلى بيت الله.. اللهم تقبل ذاك الصنيع مني واجعله لوجهك الكريم.. وإنني لأذكره هنا.. من باب الحض على الإحسان إلى الأمهات.. والله تعالى يقول: (إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ… ).. وهو سبحانه أعلم بالنوايا.. وما تخفي الصدور.
………..
وهذا كله بفضل من الله أولا.. وتلك الرؤية المنامية الطيبة.. التي استبشرت بها خيرا.. (ذكرتها بالجزء 17 من هذه الذكريات).