المقالة

محاولة لقراءة جهود الرائدات الليبيات

مائة عام ويزيد مرت على جهود نسوية لرائدات ليبيا، وهي الحقبة الزمنية التي شهدت بواكير تعلمهن وبالتالي عملهن كمعلمات، والذي يُظهر لنا واقع حضور نضالي للمرأة الليبية على سطح الاحداث آنذاك، وجميعُنا يعرف السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي لتلك الحقبة البائسة والمُرعبة من حكم استعماري أشاع الفقر والعوز، والحاجة لأبسط وأهم مقومات الحياة الانسانية.

والمقصود بـ (التبكير) التعليمي للسيدات الرائدات اللاتي تخرجن من المدرسة الرشيدية العُثمانية في مدينتي طرابلس وبنغازي، ومُؤخرا وانا احاول جمع وتوثيق أسماءهن ورصد أعدادهن كمُلتحقات بهذا النظام التعليمي عثرت على مقابلة صحفية مع السيدة زكية شعنان (مقابلة أجراها الصحفي الليبي محمود أبو ظهير بجريدة الشعب) مدني بها مشكورا ابن شقيقها (أكرم شعنان) تتحدث فيها عن تعينيها عام 1912 كمُدرسة لغة عربية وتربية اسلامية في مدرسة (المدينة القديمة) وهو العام الذي اتجهت فيه السيدة حميدة العنيزي الى تركيا لتواصل تعليمها بمعهد المعلمات بعد تخرجها من المدرسة الرشيدية، والسيدة الرائدة المعلمة زكية شعنان من قُصف بيتها في الحرب العالمية الثانية، تروى عن من كن معها أنذاك كمعلمات تخرجن من ذات المدرسة، وهي حالة مُشابهة لبدايات تعليم المرأة في دول عربية مجاورة، إن لم تكن نساء ليبيا سبقن سيدات بعض الدول، كما تشير دراسات منشورة قاربت تعليمهن بمنطقة الخليج العربي، سأضيف هنا اشارة الى تعليم مبكر للمرأة الليبية كان في ولاية فزان وتحديدا في واحة براك الشاطيء وجاءت اليها تلميذات من الواحات المجاورة ثلاثينيات القرن الماضي وقد التقيت بأربعة منهن أثناء اعدادي لأرضية أنثربولوجية لدراستي العُليا عن واحة براك الشاطي (عام 2000) تحدثن عن دراستهن لمواد: اللغة العربية والتربية الاسلامية والحساب والعلوم واللغة الايطالية، كان تعليماً استعمارياً مُسيس بدءً من النشيد المدرسي الذي كن ينشدنه في طابور الصباح (وقد أسمعتني أحداهن مقطعا منه!) ولكنهن في المحصلة محون أميتهن رفقة زملاء لهن من رجال الواحة.

في قراءة مشهد النهضة النسائية الليبية سأشير الى ما أسميتهُ (العودة الحميدة) لجيل من فتيات الوطن من عائلات ليبية هاجرت شرقا وغربا، وفي ظني انها فاتحة اربعينيات القرن الماضي كما ورد في شهادات بعضهن، عودتهن مُتعلمات وقد تراوحت شهادتهن بين الابتدائية والمعلمات، وهناك الجامعية كالسيدة فتحية عاشور في مدينة درنة، والتي أشاد بمكانتها العلمية والادارية المؤرخ اللبناني نقولا زيادة ضمن مراسلاته لزوجته راويا لسيرة  سنوات عمله مساعدا لناظر المعارف في ولاية برقة 1947م، وحقيقة سندينُ لهُن من ناحيتين أولا: كونهن ولجن مواقعهن بفاعلية المرأة المُنفتحة والحاملة لهم أن تنهض بنات وطنها علما ومعرفة ووعيا، و ثانيا مجيئهن في تلك الفترة أشاع جو من الحماسة والمنافسة لدى بعض العائلات (وعلى رأسهم بعض من أولياء الامور) التي رأت في الحاق بناتهن بالمدارس ضرورة وجدوى وما تتطلبه مرحلة بناء الوطن ومشاركة المرأة في ذلك، وهذ النقطة أيضا أشارت لها السيدة عائشة زريق رائدة التنمية الريفية في بلادنا ولفتت الانتباه -في مقابلة جمعتني بها – الى أن فاعليتهن وما أثرنه من تحريكٍ لراكد وخوضٍ في ما ظل من تابوات مجتمع جدير أيضا بالعناية والرصد.

ضمن مجهوداتهن أيضا وما مثل حجرة بناء أساسية تعويلهن على تنظيمات المجتمع المدني في صورة جمعيتي: النهضة النسائية في بنغازي عام 1954 والتي دأبت على تأسيسها وتفعيلها السيدة المُتعددة الانشغالات فيما تعلق بتبنيها لقضية المرأة الليبية (حميدة العنيزي) من وضعت على طاولتها لوحة كُتب عليها: ليس في الدنيا مستحيل، ومثيلها في طرابلس عام 1957 كانت السيدة صالحة ظافر المدني الرئيسة الاولى للجمعية و التي عادت من مهجرها (السعودية ثم ايطاليا) وسنلحظ  خطواتها التي بدأت ببيانها الذي أذاعته في محطة الراديو المحلي العربي 1947م هناك قرأت دعوتها للفتيات للحاق بركب العلم والمعرفة، مانشرته في جريدة طرابلس الغرب فيما بعد ووثقته الاديبة شريفة القيادي في كتابها المرجعي المُهم رحلة القلم النسائي الليبي، وعودة الى الجمعيتين وفي قراءة لبنود مشروعهن انذاك وإن بدت في بنغازي جمعية ذات منحى خيري، سلنحظ الدأب على المشروع – المُنجز- فهناك مئة عضوة انضوين تحت اسم هذه الجمعية في طرابلس كانت واحدة وعشرون منهن مُؤسسات، وهناك ظاهرة فيها كثير مما يُدلل على الحماسة والاصرار على العمل ففي الاسرة الواحدة تجد عدد من المنضويات من الأخوات الشقيقات (نموذجهن بنات: الفقيه حسن، ومختار حورية، وعلي صدقي عبد القادر…) كُن يساندن بعضهن ويتدافعن لهدفهن المشترك، ويمكن العودة للوثيقة التي تؤرخ لاول اجتماع لهن، وقد سلمتها لي السيدة الرائدة صالحة ظافر المدني وكُنت قد نشرتها لأول مرة في مدونة سريب للاستاذ الصحفي والاديب أحمد الفيتوري ولاحقا في كتابي نساء خارج العزلة صدر 2012، وسيرتبط مشروعهن النهضوي التعليمي والمدني في مرحلة تالية بالعمل الصحفي والاعلامي (نموذج ذلك السيدة خديجة الجهمي)، والمُلفت في خارطة انشغالهن وسنجدها في أكثر من حالة للسيدات الرائدات انذاك إذ هي: المعلمة والناشطة النسوية في مجال التوعية والتحريض والدفع، بالكتابة الصحفية وخوض السجالات المدافعة التي وثقت نصوصها الاستاذة شريفة القيادي في منجزها الذي سبق ذكره، وسأشير هنا الى انفتاح مناحي الاهتمام والتوظيف فيما قاربته أثناء اشتغالي المتواضع على التراث الشعبي لأجد اسماء منهن عنت بهكذا مجال السيدات: زعيمة الباروني، خديجة عبدالقادر، خديجة الجهمي.

كانت أقلامهن تنفي صفة الصمت التي ظلت قرينة للمرأة المرغوبة اجتماعيا، ولعل شواهد ذلك ما عمرت به زوايا الصحف كقناة مُؤثرة بصداها المبكر والنشط في مجتمع أعترف مواطنوه بدور ما يُقدم فيها من رأي ورأي آخر، وستظل تجربة السيدة خديجة الجهمي مثار بحث وسؤال إذ تسنى لها خلق حالة من العمل النسوي المتواصل لما يقارب الخمس عقود من الزمن، هذه السيدة لم تنقطع عن ظاهرة خلق حواريات – إن جاز لي التعبير – يواصلن مشروعها فلم تنغلق مكونات مشروعها على جيلها فقط بل واصلت استقطابها ورعايتها لعديد السيدات (في مجلتي المرأة، والامل) منشدة الاعداد والتوعية لكاتبات وناشطات يحملن المشعل من بعدها، وهنا لن أدعي الاحاطة والالمام، فالمنجز مازالت أطرافه مبعثرة ومشتته وبحاجة للملمة صوره ومشاهده، وكانت هناك محاولة من مُؤسسة عريقة هي مركز المحفوظات والدراسات التاريخية (مركز الجهاد) عام 2006، وقد عُقدت اجتماعات مبدئية بين باحثات  جرى استقطابهن من اجل مشروع حفظ وتدوين التاريخ الوطني لنسائنا، وكنت قد أعددت خطة طويلة وقصيرة المدى من أجل ذلك وسلمتُها للمركز، لكن عوائق حالت دون ذلك، وفي ظني انها ليست من المركز الذي دعى وتبنى، لكن قراراً جرى انتظار صدوره من أمانة (المُسمى السابق) وجرى تأجيله أو تعطيله! وهناك ميزانية سترصد من امانة أخرى!!، وعلينا ان ننتظرها… لكن الموت والفقد الغادر ياسادتي لا ينتظر ولا يستأذن واعذروني في هذا الختام القاسي وتاريخنا في عمومه وتاريخها – هُن – تحديدا يستوجب اكثر من نداء وأكثر من صرخة للعمل على رصده وتوثيقه ومن ثم قرأته كمشهد ترسخ وثبت أركانه في الزمان والمكان آنذاك، ومن الضروري حفظه في خارطة تاريخ هذا الوطن.

مقالات ذات علاقة

المراجعة والاستدراك

علي بوخريص

ســتــــــوب

المشرف العام

حكاياتٌ ثقافية مُصابة بالدهشة والرشح!

أحمد الفيتوري

تعليق واحد

مُقترح مبدئي للاحتفاء وللتوثيق، وأرشفة التاريخ النسوي الليبي (*) | بلد الطيوب 1 يونيو, 2015 at 04:00

[…] أن يتم توسعة مدار الحوار والنقاش فيها (ما ورد في المقال السابق بهذا […]

رد

اترك تعليق