اخفضْ جناحَ رحمَتِك ..
طارتْ لُغتي .
كنتُ منهمكاً أو بالأحرى مغموساً حتى النخاع في عجينةِ ألواني ، أرسمُ صحراء أعرفُ خباياها ، حين اهتزت النافذةُ فجأة وانفرجت دَرْفة زجاجها عنوة ، اثر انهمار زوبعةٍ عنيفةٍ اندفعتْ خلالها سياطُ المطرِ إلى داخل غرفتي . ساورني خوفٌ على صحرائي التي تأرجحَ متنُها ، حتى كادت أن تَسقُطَ ، لو لَمْ اهرع مسرعا لأقفال النافذة . كانتْ تمطرُ في ( ْمرُوْمَرْ شْتراسه) ..غير أني أدرتُ ظهري لعربدةِ أمطار برلين ، وزوابعها التي تزمّجر كيف ما يحلو لها ، بلا مواقيت .. وولّيت مرتابا ، ومشفقا على صحرائي التي لم أكمل بعدُ تأثيث فضائها، وفعلا قد حدث ما كنت أخشاه ، ثمة بقعٌ متطفّلةٌ من ماء متآمر بللت عنجهيةُ غزوه نسيجَ مخلوقتي ، التي غدت مثل حبّة رمل شاسعة تسيلُ في حزن ، دمعة كبيرة تنحدر صفراء ، ثم رمادية تاركة خلفها مسارب من فراغ ينزف .. وقد حفرتْ دروباً متعرجة ، وشكّلت أطيافاً عشواء تبدّت شبيهة حيوانات ممسوخة تورّمت على عجل ، وَمَا يَشِي بأكواخِ صفيحٍ مترهلة وقباب ، أو هي أكوام رماد كأنها من نفايةِ صوفٍ ولطخات أبواب لم تكتمل ، وأرداف نساء تسبح حرة ، وخراف تائهة عن مرعاها ، وأطفال ضالين لم يُحسن تربيتهم ،تفّرقوا مثل فطر وروث .. وأشكال تتحول من منحنيات إلى هضاب أو سحب باهتة . ثمة أيضا ما يُوحي بهيئة قطعان شاردة من دخان متربّص ،وأشجار تتخفّى بهلامية حقول كالحة ، غير أن ما يمكن تخمينه أن شمسَ صحرائي رغم تمزّقها ، ظلت قاسيةً، تحتفظ بسطوعها المبارك الذي يمحو بخفة غيوما وينصب أخرى .
كنت حائرا وقلقا ، فلست أدري كيف أستردّ ملامح صحرائي التي أعرفها قبل أن يغزوها المطر ، أعني قبل تلك العنوة التي انتهكت نافذة غرفتي واستباحت خلوة خيالي . فكرت بعد أن أحرقت سيجارتين في كيفية استدراج علاقة لونية تنظّم تلك الفوضى وتهبها وطنا مشتركا ,, لعلّي هكذا كنت أزعم حين غمست فرشاتي في طاس الطين ، لتسفر لطخ ألواني المرتبكة عن ما يوحي بوجه طفل منبوذ ، ظل لبضع ساعات متروكا لعبث اللحظة الغاشمة . صار كلانا ينظر إلى الآخر ، والذي على الرغم من صرامة نعاس عينيه ، انبرى لي عبر رشقات تفرّسه كأنه يتوسل بإلحاح لا يقاوم ، أن أشمله بجناح رحمتي .. ولمّا تمعّنتُ مليا في هيئته ، لامستُ هولَ جريمتي النكراء التي ارتكبتها دونما قصد منّي ، فقد كان الطفلُ بيدٍ واحدة تبحثُ عن شقيقتها ، حينها آلمني سهوي المخلّ بفداحة تلك العاهة ، مشفقا على صغيري الأكتع الذي ينبغي إنصافه دونما تردد ، فرسمت على عجلٍ اليدَ المهملة التي تأخرتُ في معرفة ما إذا كان ثمة شيء في قبضتها ، حيث تبين لي في ما بعد أنها تمسك كسرة خبز ، لتبدو تداعيات معالم الصورة أكثر لؤما وهي تدحرج ذاكرتي إلى حي قديم تهدّمت أركانُه واختفى ساكنوه وانقرضت أكواخُه منذ نصف قرن .. فلم أستطع التريث ، إذ انطلقت فرشاتي تنسج ظلالها القاسية وألوانها الحارة راقصة بخفة هوس لا حدود لمتعته . وهكذا تورطت رغما عني في ترهات تلك البقع العشواء التي رسمت نفسهَا بعد أن باغتها البلل . لحظتها رأيت ما يمكن أن يكون واقعاً حيا يعيدُ تخريطَ ملامحه بمهابة لا مناص من طغيان أشكالها . وحين عدت إلى الطفل الذي غادرته قبل هنيهة جالسا على عتبة باب لا يفضي إلى شيء .. أقمت جدارا من طوب ليكون البابُ باباَ لا غبار عليه ، ثم أقبلت على الصغير مستدركاً تظليل وجهه بما يكفل تشكيل ملامح بشرية بريئة ، فصار يَظهرُ لي بوجوهٍ عديدةٍ لأشخاصٍ أعرفهم ويعرفونني ، فلعبتُ مراراً وتكراراً عابثاً بمسارب الوجه، مُتعمّداً تشويه ملامحه ، ولكن قد ذهبتْ كل محاولاتي سُدى ، ففي كل مرة يغتصبُ ذلك الوجه الصغير وجوهَ معارفي وأترابي ورهطي ، حتى كاد أن يغلبني على أمري ، أنا الكهلُ العليلُ ، أصابعي ترتعش كلما اقتربت من استدارة وجه المخلوق الضئيل الذي لم يكن قبل سويعات سوى حبة رمل تائهة ونثار جافل من مطر دخيل . لذا قررت في نهاية المطاف أن أضع حدّاً لهذه الحماقات اللونية ، فمنحتُ ذلك الوجه خطوطا ذكية وظلالا مخادعة حتى يكون أكثر شبها بوجهي .. عندئذ راق لي إضفاء ما يجعل فضاء الحي عامرا بالحياة .. ولم تعزني حيلة الفنان الدربة الذي يحترم تقلبات مزاج فرشاته ، ويقدّر بإجلالٍ طبائعَ الألوان وخصائص عناصرها التي من مواد مرنة ، لا سيما وأن معظم الأسماء والأشياء هنا تصنع نفسها بجدارة واثقة .. بحيث لم يكن على فرشاتي سوى تلبية الرغبات التي تُملى عليها لتتضافر نعومةُ الأضواء و طمأنينةُ الظلال في استدعاء البشر والشوارع والدكاكين ، من دون أن تغفلَ العناية بضريح الولي الصالح ( سيدي عبد الجليل ) ذي الجدران الوديعة والقبّة البيضاء ، مزدانا برايات خضراء ، تَحضُنهُ ثلاثُ نخلات تطرحُ كلّما هزت رياحُ الخريف عراجينها بلحاً لذيذا ، وطريا يلتقطه الصبيةُ العابرون بشغف مرح .أعرفُ الكثير ممن سكنوا هنا ، أعرف سي الدوكالي بائع الفحم والكيروسين ، والخَبَّاز الفزَّانيّ ،وخالتي شْميسة التي تنظمُ عقوداً من خرز العقيق وحبات المحلب بعطرها الفوّاح ، والسويح الخضّار ، وأعرف عسيلة التي أحبها كما أحب أمي وجدي الأعمى ، اعرف الدبصكي صاحب الدكان ، كذلك الشرطي نافع وزوجته المصابة بداء السكري ووهن الركبتين ، كما أعرف سالم الأعور ، وخديجة السمينة ، وبالعيد الذي يفضل أكل سنام الجمل ،وأيضا ثمة أسماء أخرى سوف يأتي ذكرها عندما تستعيد ذاكرةُ لوحتي ما خفي من أسرار كائناتها التي لا حيلة لي في طمس أخبارها .
كنتُ أتحايلُ كعادتي حين تَطغى أوجاعُ جسدي ، فألجأ لغوايات فرشاتي وأرسم ما تستهويه الألوانُ فأتبعها ، وقد صرت منقاداً بنشوة اقتفاء مخيلتها هي ، لا مخيلتي ، مستسلما لانسيابها وتدفقها وجموحها .. لكن حين ظهر ذلك الطفلُ فجأة بعد زوبعة عابرة تحمل مطرا وريحا ، توجستُ نكدا طارئا ، وغمرتني كآبةٌ فادحةٌ لا حدود لحزنها ، وكان لزاما عليّ بعد أن وهبتُ الصغيرَ ما يُشبه وجهي طفلاً ، أن أقترحَ له الاسمَ الملائمَ الذي ينسجمُ مع قساوة سحنته وصرامة نظراته المشغولة بشرودها ، مترصّدا أن لا يُشيرَ أسمُه إلى أية شبهة قد تلتبس بأنساب سلالة أهل حي سيدي عبد الجليل الذين أخشى مغبّةَ وساوسهم وضراوةَ ظنونهم .
سميّته ( مصباح) ، ربما تفاؤلا ، و ربما شماتة وتشفيا من ذكرى كريهة لجندي ابغضه ، كان في يوم ما يُنادى بالاسم ذاته ، الذي أمسى أسما منسيا ، فما من شيء البتة يمكنه أن يلمّح إلى ذلك الكائن النكرة أو يشير إليه ، سوى هذا الاسم الذي اصطفيته لطفل لوحتي ، بعد أن تشكّل سمته كما تعلمون من غرابة ريح وجينات رمل ومطر وطين .
ولأنني لم أجد نفسي ، كان علي أن أغادر ، وهذا ما حدث .
¨
_____
برلين خريف 2009 .
*من كتاب ( حياة الظل ) .
عن مدونة الكاتب