صيغة الاتهام لا أرتضيها لا للفرد ولا للجماعة، و لم أكن البتة أرى أن يوجه أي اتهام لأي أحد. لكن في اللحظة الراهنة بعد أن تمكنّا من الحديث بصوت عال عمَ في أحايين خطاب الكراهية للذات أو للآخر، وذا الخطاب يعم عند المنعطفات في حياة الفرد والجماعة، في ذا الحال ما تهيمن عليه المتغيرات الحادة ينضح الحال بالارتباك والتوتر، فيعم خطاب الكراهية ما هو خطاب سيكولوجي بالأساس.
كتبت على حائط صفحتي بـ (الفيس بوك) عن كتيب أصدره أكاديمي من تونس عن ليبيا واعتبرته ينضحُ بخطاب الكراهية للأخر، وأن خطاب الكراهية للذات وراء الاستقبال الاحتفائي الذي قوبل به الكتيب من قبل ثلة من المثقفين الليبيين، وما لفت انتباهي أني اتهمت الأكاديمي –على غير عادتي- بصلته بالمخابرات، راجعت دوافع هذا فتذكرت الحدث، ثم تداعت أحداث لي مع مثقفين آخرين، وبدا أن ذاكرتي غير مثقوبة، لكن التداعي كالعادة لا سياق له،غير أنها وقائع حقيقية ساهمت في معرفتي بالكينونة البشرية.
الحكاية الأولي:
طبيعتي كما بيتي مُنفتح على البشر، لهذا كثيرا ما تردد على بيتي وضيفني في بلاده في المقهى والمطعم، عرفتهُ في طرابلس التي كثيرا ما تردد عليها أما بنغازي فعرفها بعد تمتن العلاقة بيننا، هو أكاديمي من تونس عروبي ويهتم بالمغرب العربي وتشده وشائج كجنوبي بليبيا، إذاعة صوت الوطن العربي وخطب القذافي القومية المتأججة أججت وجدان مراهقته أو كما قال. زارني مرات واستعار من مكتبتي مكتبة صغيرة تُعد بالعشرات من كتب تهتم بالشأن الليبي كي يكمل مبحثه ما أصدره في كتاب دون أن يُعيد ما استعار.
ذات مرة جاء بنغازي أظن عام 2009م فأقمنا ثلة من الأصدقاء المثقفين على شرفه حفل عشاء على البحر، أثناءها وفي شبه خلوة بيننا سألتهُ: لماذا كما يبدو يوجد عدد من المثقفين في بلادك لا يتورعون عن بغضك، فيتهمونك بأنك رجل مخابرات حتى مع من لا يعرفون، انتفض وأزبد ملدوغا وصرخ فأثار الحاضرين من لم يسمعوا ما دار بيننا، حاول أن يحرض ضدي الحضور من عرفهم من خلالي ونجح باعتباره ضيف وصديق لي، لم أفقه التظاهرة التي أنشأها وإن تفهمت تعاطف الحضور معه وإدانتي، طبعا انسحب من الحفل وتبعه آخرون، واستمر في ادعاء الغضب منى حتى عام 2012 حيث التقينا في تونس.
أما لماذا سألت، فلأني التقيتُ بشخصيات في تونس، منها من لم أعرف وكان اللقاء صدفة، مع سياسي بارز وآخر تونسي مسئول إقليمي في منظمة دولية، وآخر شاعر ومترجم ومعد برامج ثقافية شهير، وأستاذ زميله بالجامعة التي يدرس التقينا عند باب الجامعة التي يعملان فيها، فردا فردا لما يُذكر اسم صاحبي الأكاديمي يبادر بالقول بأن المذكور: مخابرات!، ولم يُعلل أحد التهمة المجانية.
أما بعد أن أزبد ورغى في ذلكم الحفل الذي انقلب إلى مناحة ضدي، نسيت ما حدث لأنه في تقديري لا يستأهل، غير أني تذكرت واقعة حدثت قبل ليلة المناحة: ذلك أن الفاشي القذافي هدم ضريح شيخ المجاهدين عمر المختار ببنغازي، عقب تظاهرة من قبل جمهور الرياضة خرجت ضد ابنه الرياضي الأول والأخير حينها وهتفت ضد النظام. حصل الهدم مساء وثاني يوم حوالي الرابعة مساء وصل صاحبي الأكاديمي من تونس، وطلب منى خدمة أن أوفر له مُكنة تصوير الضريح المهدم وجمع معلومات حول الحدث وردود الأفعال عند آل المدينة. ذكر لي أنه حصل على حجز بطائرة متجهة إلى طرابلس صباح اليوم الباكر، في طرابلس بقي لساعات ثم حجز على طائرة محلية إلى بنغازي، بكل أريحية ودون مراجعة أخذته في سيارتي، رغم أن الوضع الأمني متوتر أكثر وحالي يستدعى الحذر. عند الضريح صعد لسطح عمارة وصور كما فعل ذلك في السيارة ومن خلفها حتى لا ينتبه أحد لما يفعل. هذه الواقعة وغيرها ما تذكرت جعلتني لا أستغرب انتفاضته فغضبه فاتهام زملائه، وخاصة بُعيد قيام ثورة فبراير لما برز كما محلل سياسي على الشاشات متهما ثوار ليبيا بأنهم ثوار الناتو. ولا يمكن فصل هذاعن سياقه، فأن يشتغل المثقفون مع هذه أو تلك الجهة أمر اعتيادي منذ السُلط الأولى وحتى السلطة الأخيرة: القائمة الآن.
الحكاية الثانية:
الأسبوع الثقافي للمسرح الحديث ببنغازي في الذكرى الخامسة لتأسيسه كان في مارس 1975، كنت رئيس اللجنة الثقافية بالفرقة التي يرأس مجلس إدارتها الفنان على بوجناح وعضو الإدارة المخرج على محمد المصراتي، وعندئذ البلاد في حال اضطراب سياسي تظاهرة طلابية بالمدينة ضد التجنيد العسكري التعسفي للطلبة، خرجت وأخي المرحوم محمود في التظاهرة نهتف: الحرية، الحرية، لا حكومة عسكرية. في أغسطس ذات العام خطب الديكتاتور مهددا وتم القبض على مجموعة عسكرية منهم زملاء في قيادته بتهمة محاولة انقلابية.
أما الحال الثقافي فقد وقع تحت سنابك العسف والفرقة وقعت تحت إمكانية السيطرة والغلق، دمجت الفرق المسرحية في فرقتين في بنغازي وثلاث في طرابلس، النوادي الرياضية حصل معها ذلكم قبل. وأردنا بالأسبوع الثقافي وعيد تأسيس الفرقة المواجهة والدعم، ولهذا سمينا كل يوم باسم شخصية مسرحية مميزة من البلاد مثل: يوم الكاتب المسرحي مصطفي الأمير، يوم شيخ الفنانين (الفرقة أطلقت الكنية) الممثل سالم بوخشيم، يوم أول ممثلة مسرحية ليبية فوزية العجيلي، ويوسف العالم ، وعبد السلام قادربوه، ومحمد المصلي وهكذا، وكل يوم يُقدم فيه نشاط فني أو ثقافي محض من موسيقى ومسرح وشعر وقصة.
ليلة الأمسية القصصية كنت أدير الجلسة حيث أقدم القاص وسيرته الذاتية، ثم أتيح له المجال لقراءة قصة قصيرة أو اثنتين، بدأت الأمسية التي شارك فيها قاصون من المدينة ليبيون وعرب، لفتت انتباهي قصة يقرؤها قاص فلسطيني شهير وصاحب مجموعات قصصية، حين انتهى القاصون طلبت من رئيس الفرقة الأستاذ على بوجناح أن يأخذ مكاني لإدارة النقاش رغم ما أظهره من استغراب قام بالمهمة. جلست مع الجمهور وطلبت كلمة كما غيري: الحقيقة ما أريد الإفصاح عنه، ما دعاني لترك إدارة الأمسية، ما فكرت فيه بروية، وليس هدفي إلا الحقيقة الأدبية، القصة التي قرأها الأستاذ القاص من فلسطين هي قصة -تقريبا حرفيا- للكاتب السوري زكريا تامر من مجموعته (دمشق الحرائق) التي صدرت مؤخرا.
بطبيعة الحال انقلبت الطاولة ضدي، بدءاً من مدير الجلسة فالجمهور المثقف، خاصة الذين من فلسطين وعلى رأسهم الكاتب من أنكر واتهمني بالتطاول، حينها وقفت كالجبل واثقا لا تهزني ريح غير العليم، وأفصحت أني صباح اليوم قرأت هذه المجموعة التي جلبها لي صديق يوم أمس، كهدية اشتراها من دمشق التي عاد من زيارتها أول أمس.
أنكر الجمع التهمة ومنهم من اتهمني بالخفة والاستعراض، لكن هناك مبدأ رفعه قانوني من الحضور: البينة على من ادعى، حدد اليوم الثاني قبل بدء النشاط التالي بساعة، في الساعة أخذ على بوجناح يقرأ قصة زكريا تامر، ثم استمع الحضور القليل، ما لم يكن منهم الكاتب ولا أصدقاؤه، قصة القاص المتهم المسجلة بصوته لأن الفرقة سجلت كل منشطها كوثيقة.بهت الذين أفتوا دون علم لتطابق القصة عند القارئين، أما الكاتب فقد غادر بنغازي بعد فترة من الواقعة، لكن أصدقاءه من فلسطين اعتبروا أن ما فعله مجرد امتحان لنا بصفته الأخرى كمدرس جاء البلاد يسعى.
وثمة حكايات أخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• عنوان المقال (3 قصص مصابة بالدهشة والرشح) مستعار من القاص الصديق” طاهر الدويني” من أتمنى له الشفاء، والتي نشرتها بصفحة آفاق ثقافية ما أشرفتُ على تحريرها عامي 76 /77 من القرن الماضي، بجريدة الفجر الجديد وكان رئيس تحريرها عندئذ الأستاذ عبد الرحمن شلقم.