نهاية عام 1915
1
أنا أجوب الصحاري منذ الأمد، قبل سنوات تورطت في عمل ضد بعض التجار، قتلت منهم رجلاً ثم صرت مطارداً بوحشية من بعض جامعي الجوائز. لذا ترونني ملثماً على الدوام، حتى إنني لا أعرف عدد من هاجمتهم خلال سبع سنوات المنصرمة، لثامي يحفظ لي حياتي.
لكي تعرفوني حقيقة عليكم أن تنادوني بالملثم.
سأحكي عن حادثة وقعت بعد الهجوم الفرنسي لتبستي بأيام قليلة. كنت قد انتهيت من توي لجولة طويلة عبر الصحراء حتى تجرهي، قابلت هناك مسناً اخبرني عن التجمعات سرية لبعض المُطاردين. أخبرني بانهم عند حوض الجماجم.
قبل سنوات كنت مررتُ بحوض الجماجم، كان البعض يؤكد بأنها اختفت الآن لكنني أعرف بضبط مكانه وأحفظه عن ظهر قلب. منذ كنت في التاسعة صارت هذه الصحراء قطعة من كفي. ركبتُ بعيري وانطلقتُ لوحدي.
شهرين مضيا حين وصلتُ في احدى الليالي المقمرة لمنطقة حوض الجماجم، تهت مدة لا بأس بها، كنت أقضى أياماً لا اشرب خلالها إلا قطرات، جسدي صار جلداً مدبوغاً، أخذت أتطلع الخلاء الجليل، كان الألق القمري، يمنح لرمال الصحراء كبرياء مذهلاً، حبات مشتعلة عبر الأفق، نزلت وفردت خيمتي الصغيرة، وضعت بسرعة شاي الأخضر على النار، ثم أخذتُ أتصفح السماء، بهدوء الحكماء، منذ بلغت الخامسة والأربعين، بدأتُ أشعر بأني أفكر كالحكماء، لن يكون لي فرصة لكي أكون حكيماً، لن أجد فرصة لقيادة الرجال، سأموت لوحدي على الأرجح، لكن هذا لا يمنعني من التفكير كل ليلة. متخيلاً مئات الجنود. ثم رأيت من بعيد شبحاً يقترب، ظننتني نمت. فركت عيني، ثم حدقت مرة أخرى، فوجدت بأنها فتاة في الثامنة عشرة. كانت ملطخة بالدماء، قمت من مكاني وأنا أسحب سلاحي العثماني ببطء، لكي أحشوه، محدقاً في الظلمة خلفها، كان الألق القمري قد أخذ بالغروب وراء غيمة ربما. نظرت للسماء فوجدتها بلا نجوم.
” من أنتِ؟ “.
” مسكينة “. قالت بالهوسا.
قلت وأنا أحاول إطفاء النار التي أشعلتها، قبل أن تخمد النار رأيتُ التماعات ألسنة اللهب على وجهها المرتعب. انهارت بالقرب مني وأخذتْ تنتفض، كالأفعى.
” ماذا حدث؟ “.
سألت بلغتي الهوسا المحطمة، فقالت:
” قتلوهم “.
” من “.
” جميعهم “.
” أين؟ “.
أشارت ناحية الظلام وعرفت لا بد بأنها مجموعة من قطاع الطرق. قدمتُ لها الماء، وهي مرتبكة، أخذتْ تشرب فيما بدأت النجوم بالإشراق، ظهر القمر من وراء الغيوم العابرة، رأيتُ وجهها المغسول بالفيض والماء، كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها فتاة بجمالها منذ عقد كامل. قضيته في تتبع التحركات في الصحراء، شعرت بشيء ما ثقيل يذوب عن روحي، تعجبت من الأمر، جسدي انتفض بحزن مصدره بعيد. فيما تمددتْ هي على الرمال منهكة، أخذت تبكي بحرقة بالغة. ظللت أراقبها وهي تنتفض من البكاء، قبل أن تستغرق في النوم أو تغيب فاقدة الوعي. عندها قمت وأخذت دورة حول المكان، دائماً وأنا أسرع كيلا أفقدها للحظة، وجدتُ بأننا في أمان. عدت إليها وبدأت بشرب الشاي البارد مستشعراً الخطر القريب. لكنها بدت لي جميلة بشكل لا يوصف.
2
في الصباح التالي.
حين استيقظت لم أجدها. كان الوقت مبكراً جداً، الصحراء خالية لا تزال تغتسل بماء الليل الأسود، على مبعدة كانت بضعة نجمات منهكة تستعد للرحيل، جلست في مكاني، كنت قضيت أغلب الليل مستيقظاً، لم أنم، قبلا، هكذا بسرعة، سحبت الماء، شربت قطرات، حين استعدت ما حدث وعرفت بأن الفتاة ليست بالقرب مني. استغربت للأمر، ظننت بأنها ربما ذهبت لقضاء حاجتها، لكن الخلاء لا يظهر أية كثبان أو أجمات أو حتى انخفاضات تختبئ خلفها، قمت بحذر متتبعاً أثار قدميها، فور أن رتبت من وضعي، وشددتُ حمولتي على المهري. بعد مسير ساعة رأيتها من بعيد وقد غرقت في بحر السراب، أسرعت ناحيتها، حتى حاذيتها، كانت تسير كالمجنونة، وقد ألقت وشاحها الأزرق في مكان ما، وانسدل شعرها المجعد على كتفيها، بدت كأنها مفجوعة من أمر ما، لكنها احتفظتْ بجمال مؤلم.
” أنتِ ما بك؟ إلى أين تذهبين؟ “.
” أتركني “.
قالت دون أن تكلف نفسها عناء النظر، نزلتُ من على المهري واقتربت منها، مشيت معها للحظات، بدأت اسألها عن وجهتها، لكنها لا تجيبني، دفعني الأمر لأن أمسكها من ذراعها بغتة لأسألها بصوت غاضب عما يجري لها. عندها نظرتْ في وجهي بسكون شارد، انسابت دموعها على وجنتيها:
” أنت لا تعرف “.
قالت ثم التفتت ناحية الخلاء:
” لا تعرف “.
” أعرف ماذا؟ “.
” سيأتون، أنت لا تعرف بأنهم سيأتون “.
عندها عرفت بأن هناك من يطاردها، غريب أن تبتعد عنهم بهذا الشكل. لكنني قلت لها مهدئاً من خوفها:
” لا تخافي لن يصلوا إليك “.
عندها ولاستغرابي ضحكت بصوت عالي:
” الأفضل لك أن تتركني، الأفضل لك أن تهرب “.
حين قالت هذا عرفت بأنها فقدت عقلها لهول ما عاشته، لذا أمسكتها بقوة، جعلتها تجلس ومنحتها عدة تمرات، وشربة ماء، ثم تكلمتُ معها بهدوء:
” اسمعي، أنا لا أعرف ما حدث لكِ، ظهرت في الصحراء كجنية، قافلتك قتلت، هاجمتكم مجموعة من قطاع الطرق، لا بد بأنه أمر صعب بالنسبة لكِ، أقدر هذا، لكن أن تذهبي في الصحراء هكذا أمر لا ولن أقبل به، أنت أمانة في عنقي الآن “.
عندها ضحكتْ مرة أخرى، ظننت بأن لغتي السيئة هي ما يضحكها، لذا حاولت أن أشرح الأمر حين وضعت أصبعها الرقيق على فمي:
” إنهم وحوش “.
قالت بهمس مرتعب – ” وحوش، أتفهم، إنهم وحوش “.
عندها قمت من مكاني وأخذت أتطلع للخلاء الفسيح، الشمس أخذت تسطع بغضب متصاعد، الرمال فاقت مرحلة اللامعان وبدأت تتحول بدورها لنوع من الشموس الدقيقة، المخلوقات الأزلية تغزو المكان، تذكرت حكايات الجدات عن لحظات الموت الرهيبة، شيء ما ذكرني بصوت جدتي، عينيها المغموستين بالدموع والشوق، بشرة وجهها المتجعدة، لتبدو حكيمة ومفعمة بالإيمان.
تحركت في المكان في حركة دائرية تعودت عليها للتفكير، ثم اقتربت منها مرة أخرى، طلبت منها أن تركب المهري، فامتثلت لأمري، لا أعرف لم شعرت بالغبطة، كأني سيد عائلة، كأن هناك شخص أهتم به، شعرت بالمعنى المجهول يتسلل في قلبي، لأول مرة منذ عقود. حين حاولت أن أعود بها، صرخت وبدأت تتحدث بسرعة بالغة لم أستطع معها استيعاب ثلاثة أرباع ما قالت – لكنها أخذت تردد قصة الوحوش والخوف من قطاع الطرق. تجاهلتها ومضيت في اتجاه مغاير ما لبثت أن عدت في دورة كبيرة هذه المرة نفس الطريق، بعد مسير طويل عرفت بأنها نائمة فوق. أخرجت تبغي وأشعلت الغليون، بدأت بالتدخين.
3
قبل سنوات، ربما عشر سنوات تورطنا في معركة ضد الأجانب، في تلك الفترة كانوا يأتون من الجزائر، بعد أن استحوذوا عليها، بعض التجار يتحدثون عن فظائع، قتل واغتصابات جماعية.
كنا مجموعة من خمسة رجال. وضعنا نصب أعيننا الترصد للقوافل التابعة للفرنسيس. سرنا طوال ثلاثة أيام بلياليها في حلقات تتسع وتتقلص. بحثنا بهدوء حتى رأينا ذات مرة مجموعة تسير بشكل مكشوف. استدرنا وتوزعنا بحسب تخطيطات مسبقة، اعتدنا عليها ثم هاجمناهم. في البدء فرقناهم، دفعنا البعض من قوتهم لتنفصل عن القوة الأساسية. كانوا قرابة عشرين رجل مسلح من السينغال.
عدة ساعات كنا قد أبدناهم تماماً وقبضنا على قادتهم، فاتضحوا بأنهم فرنسيس، قال أحدهم بأنهم هنا لأجل الرب. فقال قائدنا:
” نحن هنا لأجلكم “.
قام بذبحهم كالخراف، القائد كان عضواً في المجلس الحربي لمملكة بورنو، جميعنا نعرف ما هو قادر على فعله.
إنه وحش بشري.
جمعنا أسلحتهم، عجلنا بالعودة في نفس أسلوبنا، كي لا نكون صيداً سهلاً لأية عصابة أخرى، قائدنا كان يضع خططاً مذهلة. كنا قد سمعنا بأنه سليل ألي أليماى، مطاردة الشياطين مهمته الأولى والأخيرة. سمعنا على مر سنين حكايته البطولية أعني أليماى. جدي لم يكن يهوى السرد، جدتي هي من تحكي لنا. يظل صامتاً، يشعل غليونه، نار تبغه يشعل وجهه بحمرة متوهجة، في ظلمة الليل والسكون. للحظات وقعت فريسة للذكريات ونحن نعود إلى مقرنا، الغير الدائم، كنا هائمين، حتى اقتراح قائدنا مقراً، نأوي إليه. بتنا ثلاث ليالي، حكينا عن طموحتنا، شربنا حتى الثمل، ثم حكينا أكثر غارقين في سخريات تزداد مع اللحظات، كل شيء كان مدعاة للسخرية والضحك:
” الحياة نكتة كبيرة “.
قال أحدنا، كان قصيراً من قبيلة معروفة بعشقها للنساء، يقال بأنه لا شيخ فيهم.
” كلها نكتة، تعيش فقط لكي تموت، أليست هذه نكتة؟ أنظروا معي، ببساطة نحن نصارع بجدية أمراً لا يمكن مصارعته، أنظروا من فوق للإنسان الذي يحارب كالمجنون حتى لا يموت، يتفادى ضربات السيوف، يتخطى الطرقات الخطرة، يقفز من فوق المنحدرات الخطرة بهدوء وحذر رغبة في السلامة، هو لا يدري بأنه سيموت في نهاية الطريق، موته ليس في السيف أو الطريق بل هو في مكان آخر أمامه، ربما داخله، تخيلوا تلك النقطة الصغيرة وهي تركض متفادية المخاطر ثم تقع ميتة، تبدو لي الأمور مضحكة، كم هو مؤسف الموت بطريقة مضحكة، جدي مات برفسة من رجل حماره “.
ضج الجميع بضحكة مدوية، رأيتُ في عيني القصير الحقد يلمع كلسان اللهب.
قلت:
” الموت أمر بالغ الترويع، مهما بدا مضحكاً للأحياء “.
فكفوا عن الضحك لوهلة، قال على إثرها القصير:
” لكنني أقاوم تلك الرغبة في الضحك كلما تذكرتُ ميتة جدي “. انزلقتْ دمعة على خده، كانت مشتعلة بالنار، ملتمعة بصفاء مشرق.
” نحن نتحول لقساة، الصحراء لم تعلمنا القسوة، بل علمتنا أن نشعر بوطأة الأمور السيئة على البشر، نعرف معنى أن يموت الإنسان عطشاً، لذا نحن نهرع لإغاثة العطشى بكل ما عندنا من قوة، نحن لسنا قساة “.
نفض القائد نفسه قليلاً، ثم قال بصوته الحاسم:
” الموت أمر لا يد لنا فيه، ما بوسعنا التحكم به هي حيوات الآخرين لطالما نحن أحياء، لذا ركزوا في نجاتنا “.
كان السكون هو كل شيء.
حشتُ غليوني، تطلعتُ للفتاة النائمة، بشرتها كانت تحوي بهجة، شعرتُ بها في داخلي، لطالما أحسست بوجودها، أشعلتُ غليوني، نفثتُ الدخان في الهواء، فأحسستُ بصدري يضطرب بدفقات غريبة، تنشقتُ الهواء بعمق. قمتُ سرت قليلاً، دائماً في دائرة، دون أن أبتعد عنها، جلستُ هناك، وضعتُ جبيني على الرمال الباردة، ثم أطلقت مشاعري للرياح، حتى أفرغتُ صدري.
تذكرتُ تلك اللحظة الغريبة، حين استيقظنا على صوت تحرك مريب، قائدنا كان مستيقظاً وهو يحشو سلاحه. مرتكزاً على ركبته:
” لا تصدر صوتاً، معنا رفقة “.
هدأتُ قليلاً، تحركت بهدوء، أيقظتُ بقية الرفاق.
” أتظنهم الفرنسيس؟ “.
” لا أعرف، لكنهم ملاعين “.
قبل سنوات قليلة، تمت ابادة الجيش الفرنسي في الصحراء، من وقتها، لم تكف الهجمات الدورية على القوافل والتجمعات، لذا صدر مرسوم سري يقضي بمهاجمة أي فرنسي أو مجموعة أفريقية تتحرك في منطقة الصحراء، هل أخطئوا وتركوا أثارهم؟ لا يمكن، كانت العملية متقنة. ربما معهم مقتفي أثار، لو كان الأمر كذلك فلابد بأنه داهية أو طارقي لعين.
” الفرنسيس الملاعين “.
” هل نخرج إليهم؟ “. قال القصير، رأيتُ في عينيه توقاً هائلاً، ثم قال – ” على كل حال ستكون ميتة مشرفة “.
” لا، التزموا أماكنكم “. قال القائد. لأول مرة يفضل الاحتماء، بدل الهجوم. في نظره أي هجوم هو قمة الاحتماء. في تلك الليلة تمركز على ركبته، متشبثاً بسلاحه. نظر إلينا بعين ذاهلة، مرتعبة، قال بصوت مرتعش:
” ليسوا فرنسيين، مطلقاً، تراجعوا إلى الداخل “.
بدأنا نتراجع، حين سمعنا صراخه المرعب. لا أعرف لم ركضتُ مرتعباً، قدماي كانتا ترتعشان، سمعتُ القصير يسأل – ورد كو الأضخم بيننا:
” ماذا الذي يجري؟ “.
لكن ورد كو واصل الركض للداخل. الظلمة كانت شديدة، كنا نصطدم بكل شيء أمامنا، رجلي أصيبتا بالكثير من الجروح. سقطتُ على وجهي عدة مرات، حتى وصلنا للطرف الآخر من المغارة، خرجنا للعراء، فهالنا ما رأينا.
رأس قائدنا، قطع من جسده، جلبابه الممزق، في عينيه نظرة مرعبة. توقفنا نلهث، في اللحظة التي انهار فيها صديقنا القصير، فصار يصرخ مرتعباًـ متسائلاً عما يجري. شعرتُ برأسي مشتعلاً، وأنا أتنفس بعمق، الضيق يشتد على صدري، لا شيء يمكنني فهمه، قلت للقصير–
” أصمت، أنت تهذي “. لكنه واصل الصراخ، قال وهو يرفل في رعبه الطارئ، متناسياً رغبته الموت ببطولة–
” لا أريد أن أموت، اسمعني لا أريد أن أموت، لا أريـ … “.
قبل أن يكمل جملته، رأينا فتحة هائلة في جبينه، تدفق الدم نحيلاً، فيما أخذتْ عينيه تحدق في اتجاهين مختلفين، انهار منتصباً على ركبتيه، تجمد جسده، كان بوسعنا رؤية النجوم من خلال ثقب جبينه.
4
فتحت عينيها ببطء مع ساعات الليل الأخيرة. أدخن غليوني، تلك هي الحشوة السابعة هذه الليلة. الهلع يجتاحها برعب كامل.
” إنهم هنا “.
” من تقصدين؟ “.
” إنهم هنا “.
” اهدئي “.
عرفتُ بأنها شاهدت كابوساً. اقتربت منها وهي تنتفض، أخذتها في ردائي، كطفلة صغيرة مرتعبة أخذت تنتفض في حضني، وهي تحدق بتركيز، كأنها ترى كابوسها أمامها. شعرتُ برغبة بتحسس شعرها. كان كثيفاً، كأفكار شقية. أغمضتْ عينيها بسكون سرمدي. كلحظات الغياب الصوفية. أسندتْ رأسها على كتفي مددتها على الرمال، تمددت بجوارها، كنا مباشرة تحت النجوم، الصحراء الخالية ممتلئة بأفراح التي استيقظتْ في قلبي. رحت أحلم مستيقظاً بأشياء نسيتها منذ عقدين. رجعتُ شاباً، كان جسدي يتوتر، عضلاتي تتقلص بشكل لا أستطيع التحكم به. ثم اشتممتُ رائحة شعرها، جسدها، نومها، هدوئها الهاجع في العراء، فوجدتُ بأنني أكثر ابتهاجاً. أغمضتُ عيني حالماً في نفس اللحظة من بعيد رأيتُ شيئاً كالضوء، كمجموعة أضواء تحلق على مقربة من الأرض. لم تكن نجوماً. حين فتحت عيني، اختفى كل شيء. لكنني واصلت الشعور بالرعب الداخلي, احساس استيقظ حين رأيت الفتاة، لكنني قمعته لسبب واحد، هو عدم رغبتي بإثارة خوفي.
حدقت بتركيز عبر الأفق.
مددتُ الفتاة بهدوء،
استرخى جسدها،
عنقها، كطير خرافي. بدتْ كأميرية من اريتريا ترفل في الأقمشة البيضاء المطرزة، لولا معرفتي بأنها من النيجر لظننتُ بأنها من اريتريا، جزء من التسمية تحوي معنى الجمال في لغتي. لم أستطع كبح اعجابي بجمالها حتى وأنا مرتعب في تلك اللحظة. جزء من شجاعتي الطارئة، سببه هو خوفي أمام ذاك الجمال.
ربتتُ كومة أسلحتي.
وضعتُ السلاح الناري بالقرب مني.
السهام، برؤوسها المغموسة في محلول الثوم.
الرماح النحيلة عليها تعاويذ من شيوخ تمبكتو، تم جمعها من المجلدات القديمة، التي يقال بأنها ترجمتْ في العصور العباسية، عن الوحوش الليلية، العشرات منها، أنزلتها من حمولتي ضمن بقية أشياء على ظهر بعيري. صففتها بشكل يسهل استخدامها، على شكل دائري حولنا. خطة قديمة استخدمها القائد في احدى اللحظات الأكثر صعوبة في حياتنا، حين وجهنا حملة تأديبية قادمة من طرابلس. وقتها كنت في الخامسة عشرة، كما كانت أولى حملاتي. رأيت بعيني ما يمكن لسبعة رجال من التيدا أن يقدموا عليه.
” ليست الحياة هي المهمة، بل موت الخصم “.
كنت أستمع إليه قبل بداية المعركة. في ذاك النهار الصعب، تعلمتُ كل شيء.
” عليك أن تختار أفضل ميتة، أن تستمتع بها، يجب أن ترى بعينيك ما يمكنك القيام به قبل أن يراه خصمك، الخوف هو أمر تعرفه جيداً، لأنه أنت، تعلم أن تكون الخوف نفسه “.
ثم ضحك القائد قائلا:
” أنت أمر في داخل عدوك “.
إنني أتذكر الأمر كأنه يحدث الآن، لكنني لا أستطيع أن أقمع الخوف البارد في جوفي، قدمي تتحركان لوحدهما، حاولتُ إخضاعهما ففشلتْ. أخرجتُ خنجري، قمتُ بجرح نفسي، أعلي الركبة، فكف قدمي عن التوتر.
عندها أخرجتُ الموزري.
في ذهني كنت أعرف بأني لن أستطيع استخدامه أكثر من ثلاث مرات. لذا تركته في الخلف تماماً بالقرب من الحسناء النائمة. حين جهزتُ كل شيء. اقتربت منها، كان جمالها مؤلماً في الصميم، شيء ما يدفعني لتجربة البكاء، تمنيتُ أن أقدر البكاء ولو للحظات، كما رأيتْ ذات مرة الزعيم نفسه يبكي كالأطفال.
حكيت للقائد ما رأيتُ، فتنهد بعمق قال بعدها:
” إنهم يبكون يا فتى، إنهم يبكون “.
” لكن البكاء ليس شيمة الرجال، قائدي “.
” من أخبرك بهذا؟ الرجال يبكون يا فتى، يبكون بحرقة، أي رجل لا يبكي، لا قلب ولا عقل له، بل هو وحش، أنا لا احترمهم حين لا يبكون “.
” أتبكي يا قائدي؟ “.
” نعم، حين أتذكر طفولتي، جدتي، حين أتذكر بعضاً مما لم أعد قادراً على القيام به، أبكي لأنني لم أعد قادراً على القيام به، إنها لحظات مُربكة يا صديقي “.
كانت هذه لحظاتُ مركبة.
جهزتُ نفسي،
استندتُ على ركبتي مراقباً الظلمة الكثيفة المحيطة بنا.
النجوم تومض، في عيني، لأنني تذكرتُ والداي.
شيء كالسحب تعبر، يحول بيني وبين النجوم، لم يسبق أن شعرتُ بهذا الحسم، كأن أمراً نهائياً يحصل معي. كأني أحتوي موتي بين ضلوعي، عندها فكرتُ بأنني ميت لا محالة، وإن لحظة موتي لن تكون مضحكة. على الأقل، سأموت بأنياب وحوش لا ترحم.
5
والدي رجل من الطراز القديم، لا يأكل إلا وجبة واحدة، لا يتكلم معنا إلا في صيغة الأمر والتوجيه، كل حياته إيماءات مبهمة. تركنا حين كنت صغيراً، ربتني والدتي، قضيتُ أحلم به حتى بلغتُ الثانية عشرة في اليوم الذي زارنا فيه للمرة الأولى. كان أشبه بعابر زاهد، ملابسه ناصعة، وجهه متغضن بعروق بدت لي كأنها أخاديد أو خيوط آسرة. قضى معنا شهرين، لم يتكلم خلالهما إلا قليلاً، كنا سعداء برؤيته، لكننا لم نري سعادتنا لأحد، كأي طفل من التيدا، تعلمت أن أضبط نفسي عن الضحك، حين أتذكر هذا الآن اشعر بالغضب، ليتني ضحكتُ حين كنت طفلاً، لا أحقد على أحد، لكنني لو قدر لي انجاب أبناء سأدعهم يضحكون طوال اليوم، على مدى الأسبوع، سأجعل منهم مبتسمين على الدوام، ليتعلموا بأنهم يعيشون لأجل الآخرين. الزمن يتغير، والدي كان جدياً، كان لا بد أن يكون كذلك، كما كنت أنا طوال حياتي، الجدية، القتال، التيه عبر الأراضي الشاسعة، في احدى المرات، حين وطئت قرية صغيرة شمالي تشاد، رآني عراف عابر، ظل يراقبني عن كثب وأنا أتغدى عند أحدهم، تركته يرحل، لم أريه بأنني لاحظته، حين انعطف، قمت إليه مسرعاً، تعقبته دون علمه، حتى دخل في منطقة الأحراش، انقضضت عليه بالقرب من احداها، كدت أذبحه لو لم يذكر اسم والدي.
” أنت ابنه أليس كذلك؟ “.
كنت وضعت حد الخنجر على عنقه، حتى رأيت خيطاً نحيلاً من الدم ينساب بكسل.
” كيف عرفت؟ “.
” أعرف والدك “.
” تكذب “.
” أقسم، قرأت له طالعه منذ عشرين سنة، نصحته بأن يعود لأبنائه، هل فعل؟ “.
لا أعرف ما جري لي وقتها، كان والدي قضى معنا شهرين ثم رحل دون رجعة، أيعقل أن يكون هذا المسن محقاً، هكذا فكرت في ذهني، رفهت الخنجر بحذر، أعدته لغمده المطرز بأيدي موتورات من أغاديس، يقال بأن أفضل سلاح تختاره هو أجود أسلحة عدوك، لدي سيف باتر، كما إنني أمتلك سلاح ناري انجليزي، وأخر عثماني، حين أواجه طارقياً فإنني أستخدم السيف، أقطع يديه، كنت في تلك المعركة الأخيرة، حين قمنا بإبادة المئات، بل الالاف منهم، قبل أن يتم توقيع تلك الوثيقة، كما شاركتً في غزوات هائلة ضد الفرنسيس، على طول الصحراء حتى أعماق تبستي، لكنهم جلبوا أسلحة ثقيلة في الفترة الأخيرة الأوغاد، لقد امتلكت جميع أنواع الأسلحة، لكنني لم أغلب عرافاً، الذي حاربني بأكثر الأسلحة قسوة، العطف الأبوي.
” والدك كان تائهاً “.
هكذا قال، كان جالساً على الرمال، كان مرتاحاً، كنت كأنني أجلس على جمر، تمنيت أن أفتح قلبه لأعرف كل شيء دفعة واحدة، وليس بأساليب العرافين، التلميح، الكلمات التي تملك عدة معاني، إنهم يختبرون ذكاء الجميع، حتى من يحمل لهم الموت، اللعنة عليهم.
” والدك، وجدته على وشك الموت، مقرراً مهاجمة، الفرنسيس، عند الحدود الغربية، مقرراً اختراق ممالك من الشياطين “.
” ماذا؟ “.
كان كلاماً غريباً.
” في تلك السنوات ظهرت حالات غريبة، بعض التجار تعرضوا لهجمات ساحقة، الذين نجوا منهم غدوا مجانين يتحدثون عن أكلة لحوم البشر، عن مخلوقات بأعين مضيئة كأعين القطط، يقتنصون البشر، كأنهم من الحيوانات المفترسة “.
” ماذا “.
” إنهم وحوش أسطوريين، كنت قد قرأت عنهم، عند معلمي في تمبكتو، لم أعتقد أبداً بأنهم موجودين بالفعل، في المخطوطات القديمة رسومات لهم، دراسات عميقة عنهم، لكنها قليلة جداً، يقال بأن هناك مكتبة كاملة مفقودة، تظهر أحياناً في مناطق تاريخية معينة، لكنني لم أقابلها قط، والدك قرر ان يصل إليها، سمعتُ بأن صديقاً له قتل في احدى الغارات، كان طوال سنوات يقتنص الفرنسيس، معتقداً بأنهم من قتلوا صديقه، حين شرحتُ له عن تلك المخلوقات، لم يصدقني، غادر ناحية تلك المناطق، ثم بعد ثلاثة اسابيع عاد في حالة مرعبة، أصر على معرفة كل شيء عن تلك المخلوقات، حكيت له كل ما أعرف بأمانة تامة، لأنني عرفتُ بأنه يريد مواجهتهم، كنت أتمنى أن أراهم رؤى العين، لكنني سمعتُ بأن من يراهم لا يعود ليرى شيئاً اخر أو أن يصل حتى ليوم التالي، لذا نصحتُ والدك ليعود لرؤيتكم لأنه لن يجد فرصة أخرى “.
في ذهني كان شيء واحد يدور بعمق. أولاً عرفتُ بأن والدي ميت، ثانياً عرفتُ بأنني طوال هذه السنوات، كنت أنتقم من عدوين وهميين، الطوارق والفرنسيس، لكنني كنت أنتقم من عدو ثالث حقيقي بالفعل. وقتها كنت في الخامسة والعشرين، كنت قد أسستُ مجموعة اشخاص، ادربهم كل مرة على قتال تلك المخلوقات، في كل غارة، نخرج سبع أشخاص، أعود لوحدي، بعد أن نفتك بالمئات منهم بالمعدات التي حضرها العراف، ثم تعلمت أن أقاتلهم لوحدي، وقد اضفت إلى قائمتي التجار، القائمة الجديدة، ثم صائدي الجوائز، مع هجمات أخرى ظللت لسنوات أنفذها على بعض تجار الرقيق من التيدا والعرب، أحياناً في الليالي المقمرة داخل احدى الواحات، مستمعاً لغناء الحزين، ورقرقة المياه أتذكر رغبتي بالضحك الطفولي، ثم أتذكر بأنني مثل والدي، عندها أعاهد نفسي بأنني سأجعل لأبنائي حياة أخرى، فيها نور أفضل، وسهولة أكثر.
6
والدي سبب قتالي.
الآن فعلي أن أدافع عن صبية مرتعبة. لدي عائلة الآن. هكذا فكرت وأنا أضع غليوني. أخرجت عدة أوردة، ألصقتها على ثلاث خناجر، احداها خنجر أسباني، والاثنان صنعا بأيدي أمهر الحدادين، ممزوجين بسم فريد، مصنوع من محاليل الثوم. ليس فقط لقتل البشر، بل لقتل هذه المخلوقات القذرة اللعينة التي تسكن الكهوف واعماق الصحراء.
” سنموت “.
قالت الفتاة، التفت إليها في الوقت الذي أحسست بالقرب منا حركة ما، خارج نطاق الضوء، أخذتُ نفساً عميقاً. غمست يدي في الرمال الباردة، ثم رأيته يتقدم بسرعة. رأيتُ عينيه أولاُ، ثم أسمال التي على رجليه، عندها صرختُ عالياً، ورفعتُ خنجري، لمع النصل بضوء النجوم ووهج النيران، في اللحظة التالية كان المخلوق واقعاً عند قدمي الفتاة، ينتفض كطير مذبوح، اقتربت منه، كان يحدق في الفتاة، عاجزاً، فيما أصيبت الفتاة بدهشة، ظلت مصدومة تحدق في عيني المخلوق، لم تكن عيني بقدر ما هما جرحين غائرين.
” أنظر إليه، إنه ضعيف “.
عندها غرستُ الخنجر في قلبه، فانقشع في صراخ هائل.
” ما هو، ما هو، ما هو “.
ظلت الفتاة تردد.
” لا أعرف، لكنني أعرف كيف أجعله يعرفني “.
” كيف قتلته؟ “.
” إنها مهنتي “.
أخذتْ تحدق إلى
” من أنت؟ “.
” لا تهتمي، لا يزال أمامنا بضع ساعات أخرى، علينا أن نتحرك ببطء شديد، في الغد سنصل لواحة قريبة، سنصل تجرهي، لذا علينا أن نبقى أحياء حتى الصباح، إنها مهمة ليست سهلة “.
كانت تحدق هذه المرة بشيء من الثقة، عرفتُ بأنني فزت هذه المرة، بدأت استعرض مهارتي، حملت قبساً درت في حلقة، ضيقة، ثم تقدمنا، غرست أسلحتي مرة أخرى بنفس النظام، ثم درت للمرة الثانية في حلقة متسعة أكثر قليلاً، ثم تقدمنا، غرستُ اسلحتي بنفس النظام.
هكذا حتى مسافة معقولة، حين سمعنا صوتاً، سمعتُ لوحدي، طلبت من الفتاة أن تعود لتكمن عند المتاع. تركت الخناجر وسحبت سيفاً، فالخصم هذه المرة ليس واحداً، نزعت جلبابي، حركتُ نفسي وأهلت التراب على جسدي، في اللحظة التي رأيتُ اثنان يهاجمان، وثالث يدور خارج حلقة الضوء بسرعة جنونية، فهمتُ ما يريد، غرستُ السيف، في الوقت الذي رفعت فيه الرمح، بدورة واحدة، كنت فتحت الاثنين قبل أن يقتربا مني، ورميت الرمح بسرعة ناحية المسرع، فسمعتُ صراخه في الظلام ورأيت الانقشاع، لم أتوقف، دورتي الثالثة كان أكثر صعوبة، فعدد كبير منهم يتجهون الأن ناحية مكان الفتاة، كنت أشعر بهذا، خطواتي كانت وحيدة، مع ذلك عند كل خطوة أشعر بالأرض ترتج تحتي، سحبت السلاح الانجليزي، حملتُ مشعلاً ضخماً رميته بكل قوتي، في الظلمة، وراء المجموعة، ثم رميت ثانية وثالثة، حتى رميت أربعة مشاعل، بسرعة، حين استسلمت النار واشعلت باستقامة، ظهر أعدائي، كان يحيطون بي، رأيتهم مستعدين، حوال العشرين منهم، سبع إطلاقات اسقطت منهم مجموعة لا بأس حتى أصبح من المتعذر استخدمها ثانية دون خسارة وقت ثمين، لذا رفعت الموزري، حين هجموا بتلك السرعة، ألقيت به بعنف شديد، سمعت أزيزه، في دوراته المتتالية، يقال بأن الشيطان استخدم اسلحة البشر، جعل من ابنه هدفاً، أطلق عليه من السلاح الناري، وانطلق يسابق الطلقة، لإنقاذ ابنه، فنجح في ذلك، نجح مع السهم والرمح، حينها قرر تجريب الموزري، أطلقه بقوة بشرية، انطلق بعدها لإنقاذ ابنه، عندها حين غدى بالقرب من ابنه، سمع صوت حركة الرياح، كأن السلاح قادم من جميع الجهات، ارتعب ترك ابنه، وبالكاد أنقذ نفسه من السلاح المرعب الذي لم يره قط وهو في الهواء، بل سمع صوته.
سلاح أسطوري !
لا يوجد كثيرون قادرون على استعماله كما يجب. أخذتُ نفساً عميقاً، ثبت رجلي فوق الرمال، كنت اسمعهم يقتربون، الأوغاد، التقط نفساً أكثر، ملئت رئتي، أثناء الزفير، أرجعت يدي، حاملاً الموزري بقوة، التقطته حتى شعرت بعضلات صدري تضطرب، كنت ارتفعت عن الأرض من قوة الرمية، ثم سمعتُ صوت السلاح، يزأر في الهواء، لم أضيع الوقت، التفت بسرعة، مخترقاً المجموعات التي توقفت مندهشة، مرتعبة من الصوت، لمحتهم كما لمحت الفتاة تحدق بعيني مليئتين بالدموع، ركضت ناحية الرمح، رفعته في اللحظة التي رأيتُ فيه الوحوش، يتساقطون بفعل الموزري، انحنيت وضربت بدوري المجموعات الأقرب من المتاع، استطعت قتل خمسة، حين سمعت السلاح يقترب، قبل أن يصل للمتاع أمسكت بمقبضه، كان قوة اصطدام كبير، مع الأيام لم أعد قادراً على الإمساك به جيداً، حتى إنني أحسست بأني كسرت أصبعي البنصر، في الجولة الثانية، كانت المجموعات تعاني لكنها لا توال تقترب، أخذت نفساً أعمق، يدي ترتجف، رأيت جانباً مكتظاً بهم، عرفت بأن الجانب الذي يجب ضربه بسرعة، أطلقت السلاح بينهم بعنف، فانبعث الصوت مجدداً بقوة أكبر، بأزيز أكثر حدة وضخامة، ورأيتهم يتساقطون كالذباب، أجهزت على كامل المجموعة التي بالقرب من المتاع، وخلال الوقت قليل، كنت أنهيت معركتي. فتكت ما يعادل عشرين مخلوق شرس، عادة هي لا تكون بمثل هذا العدد، إنها مجموعات صغيرة، تعودتُ أن يكونوا خمسة أو سبعة على الأكثر، أمام هذه المجموعة فإنها لا بد مهاجرة من هجوم ما، إنها هجرة، ليسوا مهاجمين، إنها مجموعة هاربة، عندها اقتربت من احدهم. كان لا يزال ينتفض. عينيه مغارتين، يتلاشى.
فكرت قليلاً، ثم التفت ناحية الفتاة.
أركبتها المهري سريعاً، ركبت خلفها، ألقيت بكل شيء، حملت أسلحتي والماء ثم انطلقنا بجنون. كأن المهري عرف ما أفكر فيه، كان يتململ طوال الليل. كنا نسابق الرياح، تذكرت قصة ألي اليماي حين هرب من الشيطان، استغربت لأنني أتذكر قصة سمعتها منذ أكثر من خمس وعشرين سنة.
” ماذا هناك؟ “.
سألت الفتاة.
” لا شيء، ليس هناك شيء “.
قلت، لكنها لم تسمعني. كان شيء ما يركض بجوارنا، التفت فرأيت ما يشبه خطم حيوان ما، ثم رأيت الأنياب، والشعر، رأيت ما لم أراه من قبل، ارتعدتْ فرائصي للمرة الأولى. أمسكت بالموزري، وأنا فكر في كيفية اطلاقه ثم المخلوق بدا يتباطيء، وأخذ المهري يحلق كالنمر، بعيداً في الظلمات التي أخذت تنقشع، كنا نحلق ناحية الشروق، بعد دقائق، بدأت السماء تضيء، ظهرت الصحراء أمامنا مجدداً، أوقفنا المهري حين بدأت أولى شعاعات الشمس بالشروق. نزلنا وتمددت الفتاة مباشرة ثم بدأت الضحك. راقبتها وأنا أبتسم مراقباً صدرها الذي أخذ ينتفض بعنف.
” نجونا “.
قالت بارتياح.
” نعم “. قلت وأنا أمد لها قربة الماء. شربت قليلاً ثم تمددتْ مجدداً.
” بعد هذه الكثبان سنصل تجرهي “.
” حقاً؟ هل أنت من هناك “.
” لا “.
” من أين أنت؟ “.
” من تازر “.
” أنا من أغاديس “.
” أغاديس “.
” نعم، والدي قدم من فاس “.
” مغربية؟ “.
” هذا ما يقولونها، أمي من أهجار “.
” كم هذا رائع، أنت خليط مدهش “.
” أرادوا تزويجي لنبيل من أوباري، سليل الأسر الشيوخ “.
” حقا؟ “.
” لم أكن أريد، تمنيت الموت، لكنهم وضعوني في ركبه وأرسلوني معه، بكيت طوال الليل، حين هاجمتنا تلك المخلوقات، قتلوا جميعاً، بمن فيهم أبي “.
قالتها بلا مبالاة، بدت كأنها تحاول قول شيء ما.
” ماذا ستفعلين الآن؟ “. سألتها ونحن نبدأ الحركة.
” لا شيء في بالي، لكنني لم أعود لأغاديس “.
” ستذهبين لأوباري “.
” مطلقاً، لم أصدق بأني تخلصت منها “.
” مؤكد بأنك تريدين فعل شيء “.
” نعم، لكنني لن أفكر في ذلك الآن “.
ابتسمت وتقدمنا أكثر تجاوزنا الكثبان فظهرت تجرهي من بعيد. عرفتُ بأن معركة صغيرة اخرى انتهت. تسألت لوهلة عن ما هية المخلوق الذي لحق بنا. كان فريداً، لم أرى مثله قط، طوال فترات مهاجمتي، للوحوش الليلية. تجاهلتُ الأمر فور دخولنا الواحة، اشتممت رائحة التمور، فشعرتُ بروحي تسترخي.
نظرتُ للفتاة ثم سألتها:
” ما اسمك؟ “.
“زارا “.
قالت ثم ابتسمت. رأيت في عينيها لمعان غريب.
7
حين تقدمنا شعرتُ كأنني اصبحتُ نصفاً اكتمل أخيراً. عندها ضحكتْ زارا لأنني نطقتُ بكلمة بلهاء أردتها أن تكون مؤثرة.
” ما بكِ؟ “.
” لا شيء “.
قالت.
” لماذا ضحكتي؟ “.
” هكذا! “.
” هكذا؟ “.
” نعم ألا يعجبك؟ “.
كانت تتكلم بالهوسا، فبدت كأنها تستفزني، لكنني قلت:
” بدوتِ لي مجنونة “.
ضحكت مرة أخرى:
” أنا أم أنت الذي تتحدث لوحدك؟ “.
” ألا تفعلين أنتِ؟ “.
” ماذا؟ “.
” تتحدثين لوحدك “.
” لا “.
” أفعلها على الدوام “.
” هذا لأنك مجنون ومسن ووحيد “.
عندها شعرت بشيء ينفذ لصدري.
” هذا المسن الوحيد أنقذكِ من موت محقق، غيري كان هرب منك “.
” لذا أنت مجنوني المفضل “.
” ماذا؟ “.
” افضل مجنون هو أنت “.
” لم تقولي هذا “.
” هذا ما قلته “.
” لكنني سمعت أمراً آخر “.
” لا تهتم هذا لأنك مجنون “.
نظرتُ إليها، بغضب مفتعل. كانت تشع بضوء الغروب، بشرتها صافية، عينيها العسلتين مشتعلتين، خصلات شعرها متحررة مع التيار، فستانها المشجر يشف عن جسد بارع، صدرها محموم برغبة عارمة.
” ما بك؟ “. سألتني حين لاحظتْ مراقبتي لها.
” لا شيء “. قلت.
كنت أفكر في شيئين حين اقتربنا من أول بيت في تجرهي، الأول هو ما الشيء الغريب الذي لاحقنا بتلك السرعة. الثاني هو ماذا سأفعل بشأن زارا.
عندها سألتني دون أن تنظر ناحيتي:
” ألا تنزع هذا اللثام؟ “.
لم أجبها.
سمعتها تصرخ:
” مجنون “.
تمت
بنغازي.
مارس – نوفمبر 2013