المقالة

الحـــوار

 

الثقافة تعني في حدها الأدنى مضمون المجتمع الفكري والجمالي الذي بلوره تاريخ تراكمه المعرفي, ولا يمكن لأي واقع ثقافي أن يتطور إلا بشحنه بمزيد من الأسئلة والحوار في مناخ متسامح من الانفتاح على الثقافات الأخرى عبر الزمان والمكان, وتحدد الثقافة هوية أية جماعة متجانسة ومشغولة عقلياً بتنمية محتواها المعرفي, وتعريضه الدائم لأدوات النقد المنهجية التي من شأنها تعيين ميكانيزماته ومفاصله الحية لتأسيس قاعدة صلبة لممكنات الحوار مع الآخر والتلاقح الضمني بين اجتهادات البشر التي تلتقي في صميم التساؤل الإنساني حول مستقبل هذا الكوكب ومدى قدرته على التعايش السلمي المنتج بعيداً عن لافتات العنصرية والعزلة, وهواجس الاستلاب والاغتراب التي أنتجها واقع التدافع في ظلت ذهنية الهيمنة والاحتواء المنهجي, التي راودت على مر التاريخ الأمم القوية, حيث عدم التوازن بين الحقول المعرفية الحديثة بما فيها التقنية التي بقدر ما حفزت نزعات الهيمنة, حركت مشاعر الهوية, والتي في مجملها لم تخرج عن أشكال طرحها المرضى الكفيلة بإثارة شعارات من هذا القبيل, ولعل مصطلح الغزو الثقافي أحد هذه المصادرات التي نقلت المدفع من ساحة المعركة إلى فضاء الورق الذي أصبح براحاً لهذه التوصيفات العسكرية وتحويله إلى جبهات باردة لتبادل إطلاق التهم بدل أن يكون مكاناً للحوار الذي حري به إن يروض تلك النزعات العدوانية التي تعمل اطراداً على توسيع الهوة بين الحضارات وثقافاتها المتعددة, وإذا ما سلمنا مبدئياً بجدوى هذا العنوان وهو الغزو الثقافي, فإنه بطرح آخر يمكننا أن نقول أن هذا الكوكب بأكمله يتعرض لزحف ثقافة جديدة بدأت تشكل جزاءاً من أثاث أي بيت عصري, وهذه الثقافة الجديدة نحن أحد المساهمين فيها بشكل أو آخر, سواء من الناحية التاريخية بفعلنا الحضاري والثقافي, أو من ناحية وضعنا الراهن كمستهلكين بحماس لكل مفردات هذه الثقافة الجديدة, وهكذا كان الناموس التاريخي في انتقال المعرفة من الأماكن الأكثر كثافة إلى الأقل, عاكسة مبدأ الانتشار الأسموزي في النظريات العلمية التي ينتقل فيها الماء من المحاليل الأكثر تركيزاً إلى الأخف وبشكل تلقائي وعفوي, وأية محاولة لإيقاف هذا المد سيطالها نوع من التعسف, ولا يمكن التغلب على هذه الظاهرة إلا بحقن واقعنا الثقافي بمزيد من الكثافة والقوة التي سيكون مالها خلق أرضية متوازنة للتبادل المعرفي والحوار المتوخي.

مقالات ذات علاقة

(كساد) هل هو مصطلح حداثوي؟

نعيمة العجيلي

تاكو الفيس بوك

إبراهيم حميدان

صرت مؤمنا!

عبدالمنعم المحجوب

اترك تعليق