المقالة

أدب وحب*

الذكرى الـ58 لرحيل الشاعر الليبي علي الرقيعي

الشاعر علي الرقيعي
الشاعر علي الرقيعي

ليس من شك أن النزعة الرومانتيكة في الأدب التي ظهرت بوادرها في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع كثورة فكرية على القوالب الجامدة وكرد فعل عنيف ضد المذهب الكلاسيكي القديم ليس من شك أن هذه النزعة رغم الانقلابات الاجتماعية التي أحدثتها على الفكر والأدب وجميع مفاهيم الحياة فهي تقف اليوم عاجزة تماماً أمام الأحداث التطورية التي عاصرت القرن العشرين بعد أن تطورت المشكلات الاجتماعية والإنسانية على نحو جاد وزاد إحساس الناس بها ووعيهم لطبيعتها وحقائقها الموضوعية والمادية بدون الانسياق وراء العواطف الجامحة والخيال المفرط وأصبحت التأملات المجردة ضرباً من الغته واللا جدوی.

 وفي مجال الأدب والفن نحد كذلك أن هذه النزعة قد أحدثت أيضاً انقلابات جذرية بالغة الخطورة والأهمية في المفاهيم الأدبية والنفسية على السواء وحطمت الجمود وحررت الفكر من قوالب التقليد إلى الرحابة والانطلاق والغوص في أعماق النفس الإنسانية وما يجيش بها من انفعال وشجن وحب ونوازع وغيرها من الانقسامات النفسية والوجدانية وأصبحت النفس البشرية هي مركز الاهتمام ومن أكبر قضايا دعاة هذه المدرسة التي يمثلها خير تمثيل (جوتة) و(شيلي) و(بايرون) و(فيكتور هوجو) ولقد اصطبغت آثار الكثيرين من الكتاب والشعراء بالصبغة السلبية من شجن وحزن ونزوع إلى العزلة وارتماء في أحضان الطبيعة وحدة الحساسية والتأمل الميتافيزيقي.

وظل الأدب الروماني بصفة عامة تعبيراً عن الصراع الاجتماعي ضد طبقة النبلاء والإقطاع وحتى الكنيسة في كل من ألمانيا وفرنسا على الخصوص واحتجاجاً صارخاً على العبودية الفكرية والاجتماعية وتبعية القطيع التي عاصرتها جماهير الطبقات العامة في ذلك العصر تساعدها في ذلك الطبقة البرجوازية التي تكافح من أجل حماية مصالحها النامية نتيجة للتطورات الصناعية الهائلة والتقدم العلمي الذي غمر أوروبا.

ولكن كما قلت وبالرغم من كل ذلك فإن الدور الذي كان يقوم به الاتجاه الرومانسي في الأدب لا يعكس تماماً الحقيقة الموضوعية للحياة التي عاصرها ذلك لأن أغلب اهتماماته كانت تتناول المشاكل الفردية الخاصة وما يتنازعها من حب وقلق وخوف من المجهول وما إلى ذلك من الحالات الوجدانية والعاطفية التي تعيش بمزاج شاحب وإسهال عاطفي غامض وكان لا بد من إيجاد حل وكان لا بد من التفكير بعمق ووعى تجاه من الناس والمشاكل التي يتعرض لها الإنسان وتزداد حدتها ضراوة وكثافة بعد تطور الإنسان وازدادت تناقضات الحياة ونشاطاتها في جميع المجالات الأدبية والفنية والسياسية والعلمية على السواء ومن هنا اتجه الإنسان الجديد إلى التفكير الموضوعي والاستقصاء الجاد لتثير الظواهر والكشف عن المجهول بطريقة علمية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسان وأصبح البحث الموضوعي التزاماً يأتي من الداخل من داخل الإنسان نفسه وما يثيره العلم من انتصارات في علم الحياة ومن حقائق ووضوح على أساس من المنطق والمشاهدة والتجربة.

وهكذا ظهرت الواقعية الجديدة كطريقة مغايرة متميزة لإدراك الحياة والنظر إلى الأشياء على اختلاف مستوياتها بما ينعكس من آثار لعالم الطبيعة والحياة وأصبح تبعاً لذلك الأدب تعبير عن الحياة الواقعية ومظهراً مختاراً من مظاهرها بعيداً عن الجموح والشك والغموض التي يثيرها الأدب الرومانسي والمزاج العاطفي وبدأت النظرة تتسع بعد ذلك لتشتمل قضايا الصراع التي تحدثها التناقضات داخل المجتمع وعلى ضوء هذا الاتجاه أصبحت الكلمة أداة جليلة في سبيل حياة فاضلة تنتقل من الأقبية الرطبة إلى المجال الإنساني الرحب لتمجد انتصارات الإنسان وتعبر عن مشاكله وهمومه واهتماماته ولم يعد بالتالي الفنان الأصيل يتنازع مع ذاتيته في معارك لا تنتهي أو مع رغباته المتناقضة ولكنه أصبح اضطرابه في واقع الحياة يعين مع مجموعة من ناس وأصبحت مسؤوليته تجاههم تمثل وظيفة قيادية ضد الحواجز التي تقف لتعرقل نمو التطور في حياتنا الإنسانية أي أنه الإنسان الذي يصنع الحياة ويصنع الفعالية المبدعة لتأكيد الحفاظ على معاني قيم الإنسان الفكرية والحضارية وإثراء وجدانه بالحب والخير والبساطة والجمال.

الحب للحیاة:

هل صحيح أن التحدث عن الحب عيب وكلام فارغ؟ هل صحيح أن هذا الإحساس الرائع الذي يربط ما بين العلاقات الإنسانية ويوحد ما بينها إسفافاً وضرب من الهراء الذي لا طائل وراءه؟

هل وهل وهل علامات استفهام كثيرة وضخمة تتناثر أمامي وأنا أتحدث عن الحب وكأني أرتكب جريمة وكأني أحرض على إهدار قيم المجتمع وأدعو إلى النيل منه والتردي به إلى مستوى الانحدار.

أي تعاسة أن يتحكم قانون قبيح من الممنوعات والمحرمات في صرامة وتعسفية مفرطة.

وأي معنى لحياة هي الأخرى قبيحة لا دلالة لها ولا مفهوم والواقع أن هذا بدون شك هو الانعكاس الحتمي للوضع الاجتماعي الذي نعيشه ونتيجة لركود علاقاتنا الاجتماعية والثقافية ولاستمرارية التخلف في وسائلنا الإنتاجية في جميع المجالات سواء من الناحية الاقتصادية أو الفكرية أو الحضارية بحيث احتفظت القيم التقليدية القديمة بجميع فاعليتها التأثيرية على مجتمعنا لتحديد سلوكه أو التحكم فيه ولا تزال فكرة الحريم التي جاءتنا من عصور الانحطاط والظلام هي الفكرة السائدة التي نتعامل بها حتى الآن.

وظلت المرأة تعيش وجوداً طفيلياً على الرجل عليه حمايتها وإطعامها ومعاملتها بكثير من الدونية والاجحاف واتسعت شقة الخلاف بينها حتى أصبح الكثير من علاقاتنا الزوجية لا إنسانية في أغلب الأحيان يغلب عليها طابع الملل والفتور والضجر وتنتهي أخيراً بالطلاق أو الفشل.

ولعلنا نحن أبناء الجيل الجديد هذا الجيل التعس فتيان وفتيات هو الذي يتحمل وحده مسؤولية هذه القضية وهو يقف في مفترق الطرق ويحاول أن يسترد اعتباره وضياعه ويرفض أن يتعطل إحساسه ويتبلد وجدانه ويقف قلبه عن الخفوق ويرفض أن يكون الحب عيباً وكلاماً فارغاً.

هذا الجيل في حاجة ضرورية ومستعجلة إلى انقلاب خطير في جميع مفاهيم حياته والنظر إلى القضايا بأكثر موضوعية واهتمام في حاجة إلى الاستقلال الذاتي والاعتماد الذاتي والتعبير المستقل وعدم الذوبان والتلاشي في الأسرة بالإضافة إلى الثقافة الفكرية الواعية التي تحدد رغباتنا وتستكمل مراحل النمو والإدراك فينا لتصل إلى مرحلة التكامل الشخصي والتلذذ بحلاوة الشخصية التي هي سبيلنا إلى بوابة الحياة الكريمة.

إن الوسائل الغرامية التي يتبادلها الجنسان كتعبير عن الحب ليست إلا طريقة ساذجة وعبيطة وليست إلا تعبيراً عن حالات مريضة يتعامل بها المراهقون لفشلهم وإفلاسهم.

إن المطلوب من الجيل الجديد إلغاء هذه الطريقة الصبيانية لينتصب مارداً في وجه الذين يضعون الشوك في طريقه لينمي علاقات الحب ويكبر من شأنها ويجعلها مبدأ أساسياً للمعاملات فالحياة يجب أن نعيشها بمعنى وأصالة وأن نفجر طاقات الإبداع فينا ونحررها من سلاسل الكبوت ومعاقل الرتابة ونتلمس وجودنا الإنساني؛ ذلك لأن المستقبل لشباب جيلنا الجديد.


د.بشير العتري (لم يمت .. قصائد ومقالات مجهولة للشاعر الراحل علي الرقيعي)، المؤسسة العامة للثقافة، طرابلس، الطبعة الثانية، 2008.

(*) مقال: أدب وحب، جريدة طرابلس الغرب سنة 1961م.

مقالات ذات علاقة

دعونا نحب ليبيا

مفتاح العماري

ذئبة كابيتولينا

المشرف العام

السلوك البشري

المشرف العام

اترك تعليق