المقالة

ذئبة كابيتولينا

خليفة البشباش

ذئبة كابيتولينا (الصورة: الكاتب خليفة البشباش)
ذئبة كابيتولينا (الصورة: الكاتب خليفة البشباش)

لوبا هي الترجمة الإيطالية لأنثى الذئب “أوشن”، أما الاسم الحقيقي لمثل هذا التمثال فهو “ذئبة كابيتولينا” إشارة للمكان الذي تنسب له النسخة الأصلية لهذا التمثال الذي يجسد الذئبة وهي ترضع رومولوس وريموس حيث تشير القصة إلى أنها أنقذتهما من الغرق في النهر واعتنت بهما، ليكبر رومولوس ويصبح لاحقا ملكا ويؤسس مدينة روما ويمنحها اسمه، بعد أن يقتل أخاه.

في الواقع فإن القصة أسطورية، ورومولوس وريموس شخصيات خيالية لا يؤمن بوجودها إلا قلة من المؤرخين، وأن شخصية رومولوس على الأغلب هي من أخذت اسمها من روما وليس العكس، وهذا المبحث “الميثولوجي” شديد الأهمية، إذ يتناوله الكثيرون بصورة مبسطة تقف عند مجرد السرد وتكرار القصص والحكايات والعقائد القديمة وكأن الميثولوجيا والأسطرة حالة أو حادثة وقعت ومضت.

تتسلل الأسطورة إلى كل شيء، إلى الأفكار والأنساب والحوادث التاريخية القديمة منها والحديثة وحتى إلى اللغة نفسها، وهي حالة إنسانية معقدة من ميل إلى التبسيط الطفولي في صياغة أو اختلاق القصص، ورغبة في تنقية الحكايات من شوائب الواقع والشرور الإنسانية ومنحها سردية أكثر ملحمية لا تخلو من غرابة، ووسيلة بشرية لنقل وترسيخ التجارب والقيم التي يصعب شرحها بدون الأسطورة التي تتطور بمرور الزمن لتمتلك حبكة قوية بحيث يؤمن بها الكثيرون كوقائع، وهو سلوك نمارسه يوميا حتى في أحداث قريبة.

يتحدث مارسيل ديتيان مؤلف كتاب “اختلاق الميثولوجيا” عن صعوبة تحديد موقع الميثولوجيا من القصص، لأن لها شكلا متحركا لسراب دائم الحيوية، من السهل اليوم تمييز مغامرات زيوس الذي يجتاز السماوات جيئة وذهابا ليقيم علاقاته، أو نظرات ميدوسا التي تحيل البشر حجرا بلعنات عينيها الحزينتين على أنها خرافات، لكن الأسطورة أعقد من هذا، لأنها يمكن أن تكون قصة بشخصيات و”سيناريوهات” حقيقية، يمكن أن توجد في حكايات القبيلة، في الروايات التاريخية، في قصص الجدات، وفي معتقداتك عن منشئك، وفي روايتك أنت نفسك عن الأحداث السياسية والاجتماعية القريبة والبعيدة.

على كل حال، لقد نشأت روما بطريقة بسيطة جدا، لقد صنعها النهر الذي كان مصدرا مهما للمياه، والتلال التي جعلت منها منطقة رعوية جاذبة في الأصل، ثم نمت إلى قرية فمجموعة قرى، وتتابعت عليها الأزمان والدول لتصبح أعظم مدينة في العالم ذات يوم، وأول مدينة يصل سكانها إلى مليون نسمة، تحكم امبراطورية مترامية الأطراف في قارات مختلفة، لن يكون من الممتع أن تروى قصة تأسيس هذه المدينة العظيمة بهذا التبسيط المكرر، ثم ماذا سيضع نادي روما على قميصه إذا حذفنا قصة رومولوس وذئبة كابيتولينا؟ خصوصا أنه لا يملك لقبا واحدا في دوري الابطال ليزين به قمصانه.

الأسطورة مهمة في حياتنا، أهمية إنسانية وشعورية وشاعرية ومعرفية، وأنا لا أدعو –على أساس لو دعوت فيه من بيدورني- إلى نبذها، بل إلى جدية دراستها في سياقها الخاص أولا، وفي السياق التاريخي والسردي للحوادث ثانيا، وأخيرا العناية بالأساطير والميثولوجيا المحلية بعيدا عن استسهال تكرار دراسة الأساطير الكلاسيكية وميثولوجيا “الخواجات”، ونفتقد مع الأسف لهذه الثلاث معا.

أعجب موسولويني -الدكتاتور الفاشي- بتمثال ذئبة كابيتولينا فجعله أحد رموز إيطاليا في عهدها الفاشي، وأمر بصنع نسخ منها وقد نقلها إلى كثير من المدن التي كانت تقع تحت الاحتلال الإيطالي كرمزية للسيطرة الإيطالية وحلمه في إعادة الإمبراطورية، وقدمها كهدايا لبعض الدول، وكان يوجد منها نسخ في طرابلس وبنغازي التي عثر عليها مؤخرا، ومكانها الصحيح اليوم هو المتاحف بعد العناية والترميم، لا الإهمال نظرا لأهميتها التاريخية، ولا الإعادة لمكانها كما ينادي البعض نظرا لرمزيتها السياسية لحقبة الاحتلال.

مقالات ذات علاقة

قرنٌ من حربٍ كبرى لم تنتهِ بعد!

أحمد الفيتوري

مابعد الحداثة وانعدام الأصل

عمر أبوالقاسم الككلي

بَحْثاً عَنِ السَّعَـادَةِ

خالد السحاتي

اترك تعليق