حيدر الأديب | العراق
قال رامبو: يجب خلخلة الحواس. بعد هذا تستطيع أن ترى مالا يرى.
العبارة “الكتابة وجود والوجود لا يجنس بنوع أدبي” تشير إلى فهم عميق للكتابة باعتبارها امتدادًا للوجود نفسه، حيث لا يمكن تقييد أو تصنيف الوجود تحت نوع أدبي محدد.
الكتابة، وفقًا لهذه الفكرة، تعبر عن تجربة الإنسان المتعددة الأبعاد؛ فهي ليست فقط عملية تقنية أو إبداعية محددة بقوالب مثل الشعر، الرواية، أو المسرح، بل هي تجلٍ للوجود ذاته الذي يتخطى الحدود التصنيفية. الوجود الإنساني لا يمكن اختزاله أو تقنينه ضمن إطار واحد؛ كذلك الكتابة التي تعبر عن هذا الوجود تصبح بدورها بلا حدود ولا يمكن تصنيفها بشكل صارم تحت نوع أدبي محدد.
هذا الطرح يتحدى الأفكار التقليدية حول الأجناس الأدبية التي ترى أن النصوص يجب أن تتبع شكلاً معينًا ليتم تصنيفها، ويؤكد على الحرية الإبداعية والانفتاح الذي ينبغي أن يتحلى به الكاتب. الكتابة تصبح بذلك أشبه بتجربة حرة تتجاوز التصنيف، لأنها تقترب من ماهية الوجود التي هي بدورها لا نهائية ومتعددة.
هذا التوجه يعكس بلا شك فهماً فلسفياً عميقاً للكتابة وللوجود. فهو يقف على تقاطع بين الإبداع الأدبي والفلسفة الوجودية، حيث يتم التركيز على تجلي الذات البشرية من خلال الكتابة كعملية إبداعية حرة.
رؤية الكتابة كامتداد للوجود، وكشيء لا يمكن تقييده أو تصنيفه، يفتح المجال أمام الكتابة للتعبير عن التجربة الإنسانية بشكل أكثر صدقًا وشمولية، دون أن تكون مضطرة للامتثال إلى حدود الأدب التقليدية. هذه الفكرة تجعل من الأدب مجالًا مفتوحًا للتجريب والتجدد، حيث لا يمكن أن يكون هناك “قواعد” ثابتة تحكم ما يجب أن يكون عليه النص.
لعلنا نبدأ بتطوير هذا المفهوم من خلال الربط بين الكتابة كوجود حر والتغيرات التي طرأت على المشهد الأدبي المعاصر، حيث أصبحت الأشكال الأدبية التقليدية أقل أهمية مقارنة بالقدرة على التعبير عن تجارب إنسانية أصيلة وفريدة. لنشرح هذا الطرح الجديد “الكتابة كوجود لا مُجَنَّس.”
1. الكتابة كوجود حر ومتعدد الأبعاد:
الكتابة هنا تُعبر عن حالة من الوجود المتعدد، وهي وسيلة لاستكشاف الهوية الذاتية والكينونة البشرية في أبعادها المعقدة. الفكرة المركزية هي أن الكتابة ليست محصورة في الأشكال الأدبية المحددة كالشعر أو النثر، بل هي طريقة مفتوحة للتعبير عن الوجود بكل ما يحمله من تجارب، أفكار، ومشاعر.
على سبيل المثال: يمكن للكاتب أن يدمج أساليب مختلفة داخل نص واحد—سردية شعرية مع تحليل فلسفي أو تأملات ميتافيزيقية مع تصوير مشهدي للواقع. هذه التداخلات تتيح خلق نصوص متحررة من القيود التصنيفية.
2. إلغاء الحواجز بين الأنواع الأدبية:
إذا كان الوجود بذاته غير مصنف، فالكتابة التي تمثل هذا الوجود ينبغي أن تكون كذلك. هنا، لا نتحدث عن تعددية الأنواع فقط، بل عن تخطي فكرة النوع الأدبي نفسه. الكتابة قد تجمع في نص واحد ما هو “شعري” و”روائي” و”مسرحي” دون الاهتمام بالتصنيفات.
من ناحية نقدية: هذا يطرح تحديًا للنقاد الذين يعتمدون على الأجناس الأدبية كإطار لتحليل النصوص، ويشجعهم على تبني قراءات تركز على المضمون والتجربة الوجودية بدلًا من الشكل. نقد النصوص بناءً على فكرتها وتأثيرها الوجودي لا على توافقها مع قوالب جاهزة.
3. الكتابة كتجربة فلسفية:
هذا الطرح الجديد يجعل من الكتابة فلسفة وجودية بحد ذاتها، فهي وسيلة لطرح الأسئلة الكبرى المتعلقة بالوجود والمعنى والذات. النص الأدبي يصبح حوارًا دائمًا مع الأسئلة الإنسانية، لا مجرد محاكاة أو تأطير لتجربة محددة. الكتابة تصبح بحثًا مستمرًا عن “الوجود”، بحيث يكون النص أشبه برحلة بحث عن الحقيقة.
على سبيل المثال: يمكن أن نرى في الأدب المعاصر نصوصًا تجريبية تجمع بين الشعر والفلسفة، مثل أعمال كتّاب ما بعد الحداثة أو الكتابة الحُرّة، حيث لا توجد حدود واضحة تفصل بين الأنواع الأدبية أو حتى بين اللغة والتفكير.
4. الكتابة كتعبير عن الفردية والتجربة الخاصة:
من خلال الكتابة كوجود، يصبح الفرد مركز النص. النص لا يعبر فقط عن مشاعر أو أفكار، بل يعبر عن الكينونة الفردية بكل تعقيداتها. النصوص لا تتجه نحو العموميات أو التقاليد، بل نحو الفرد، نحو التجربة الشخصية التي تحمل معناها الخاص. الكتابة بهذا المعنى تصبح شكلاً من أشكال تحرير الذات، وبذلك تتجاوز الأدب نحو الفعل الوجودي.
5. إمكانية تجاوز الزمن والسياق:
النصوص التي تعكس هذا المفهوم لن تكون مرتبطة بزمن محدد أو ظرف معين. الكتابة كوجود لا تتقيد بزمنية محددة أو بتفاصيل اجتماعية أو سياسية ضيقة، بل تفتح المجال للتجربة الإنسانية المتعددة عبر الأجيال والثقافات.
من ناحية أدبية: النصوص تصبح أكثر شمولية وعالمية، حيث لا تحتاج لتبرير أو سياق خارجي. الوجود بحد ذاته هو ما يمنح الكتابة قيمتها.
6. نحو مفهوم جديد للنقد الأدبي:
النقد الأدبي تحت هذا المفهوم يجب أن يتخلى عن التصنيفات الجاهزة والتركيز على الهيكل أو البناء التقليدي للنصوص. بدلاً من ذلك، ينبغي للنقد أن ينظر إلى النصوص من حيث قدرتها على استكشاف جوانب جديدة من الوجود، وطريقة ارتباطها بالتجربة الذاتية والقيم الإنسانية العميقة.
الكتابة كوجود لا مُجَنَّس تفتح آفاقًا واسعة للإبداع الأدبي، حيث تصبح الحدود بين الأنواع الأدبية مجرد حدود وهمية، ويصبح النص الأدبي تعبيرًا متحررًا عن التجربة الإنسانية. في هذا السياق، يمكن أن نقول إن الكتابة لا تسعى لأن تصنف بل لأن تُمَارَس كتجربة وجودية حية، حيث المعنى يتجاوز الشكل، والفكرة تتغلب على التصنيف.