ربيعة حيار
كلوحة تراجيدية تنتحب على شخوصها، جالس هو في ظلام غرفته.
ما عساه أن يفعل، أو بالأحرى، هل لديه الوقت ليفكر بما سيحدث؟ كيف لحياته بأن تنساب كما المياه بين يديه، الحياة التي يوما أقسم بأن يلونها بالمبهاج والأفراح، ما عادت ملونة وما عادت حية.
رائحة الموت في كل مكان، وسيف الظلم كأسد يزأر يبتلع كل من يقف في طريقه.
ما كان في خُلده شيء غير السلام، ومع هذا، الأفكار تجتاح جوفه، لم يكن مسؤولاً عن نفسه بل كان مسؤولاً عن الجميع.
كيف لكلمة أن تقسم ظهره، كما لو أنها القشة التي قسمت ظهر البعير. كيف لكلمة بأن تنقله من عالم موازي في بؤسه وظلمه وظلامه الدامس لعالم آخر. كيف لكلمة أن تُخرج منه شخصًا آخر يحارب آلات الحرب والطغيان مجردًا وعاريًا من اي سلاح غير الكلمة.
كان ينصت لدقات قلبه المرتجفة، لم يرتعش قلبه من قبل إلا مرة، عندما دق عصفور الحب على بابه، ولكن في هذه اللحظات، الوضع والمكان مختلفان، وكأنه أصبح غريب الزمان والمكان. كان يعد الثواني بعدد نبضات قلبه، ما هي إلا لحظات وينتهي كل شيء. أكان الخوف قد استحوذ على قلبه أم كانت نشوة الانتصار فعلت ذلك؟ ولكن ما مصدر هذا الشعور، أهو عن خسارة حياته دون التنكيل بمبادئه أم عن ارغامه لهم لسماع صوته بقوة الكلمة؟
أضحت له الحياة كورقة ممزقة عفى عليها الزمن ومضى، لم يبقى له ما يكتب فيها، غادرته الأفكار والأحاسيس قبل أن تغادره الحروف والجمل، غادرته مذ اليوم التي تركته تلك الفتاة، وحيدًا بأسًا، يرثي حبًا خريفيًا في المهد، حبًا لم يزهر ولم يثمر، بل كان عقيمًا مذ يومه الأول.
لم يتوقع بأن تلك الفتاة، المليء حياة وعنفوان، والتي كانت يومًا سبباً لحياته قد غدت سببًا لشقائه. تلك الإيًّلة ذات الجمال القوقازي—كما اعتاد مُغازلتها—والتي دخلت عالمه خُلسة وغادرته خُلسة، كما كان لدخولها معنى، كان لخروجها ألف معنى.
اعتصر قلبه بمرارة وألم الذكرى، تدفقت أمواج الذكريات لتجرفه إلى دومة الماضي من حيث لا يدري. الماضي الذي حاول كثيرًا نسيانه ومحوه من رزنامة تاريخه، عاد يطارده ويفترسه بأنياب الحب المسمومة.
كان لذكراها كمن يضرم النار في الهشيم، استرجع تاريخه المتمثل في كلمتين، “لست منا”، كيف يخال نفسه منهم، وهو الذي تشعب الشك في قلبه قبل عقله، كانت بذرة صغيرة وسرعان ما نمت لشجرة معرفة الخير والشر، استسقت من ينبوع الآلام، لتحرر عقله على الأقل، فقلبه الذي كان عبد للحب أصبح حجرًا لا يفرق بين الفرح والحزن فما عاد هناك فرح وما عاد هناك رثاء—كما ما عاد يفرق بين الحب والموت—فكلهما سيان في هذه الساعات المعدودة.
استجمع رباطة جأشه، وصدى كلمات صديقه الأخيرة تتردد في عقله:
“قد يتراءى الشك في سحب أفكارنا، ليسطع نور من المعرفة، يقود إلى بداية مختلفة تمامًا، فلكل شيء بداية، وربما تتصارع ذواتنا مع أرث ثقيل نحمله على أكتافنا، تقلدناه من الآباء ومسلم به، ولكن هذا الصراع لا ينتهي بطريقة سليمة، فأين السلام إذا كان العقل مقيد بحدود مرسومة مسبقًا والتي مُحرمًا تعديها، هذه الحدود أعمت العقول وسجنت القلوب، وسمرت الأفكار داخل مكعب. فأنت لست الوحيد الذي يخرج من القوقعة ولست الوحيد الذي تنتابه نوبات السؤال والبحث في المجهول، من منا لم يفكر في حياته؟ من منا لم تساوره في وجدانه الأسئلة التقليدية، القديمة الحديثة، لماذا؟ وكيف؟ بداية الحقيقة، يا صديقي، هي السؤال وهي بداية شعورك بأنك إنسان تختلف في فكرك عن باقي الكائنات، كائن ذو سيادة بعقله لا بجوارحه، كائن ذو مكانة أسمى بفكره لا بما ألفى عليه آباءنا الأولين.”
تحسر على حاله وما آلت إليه وجهته، يقبع في غرفة مظلمة حيث البرودة والرطوبة تنخر في عظامه، كان معترفًا بضعفه وقلة حيلته، رغم القوة التي اظهرها لهم والحجة التي استند عليها، ها هو ذا يتهاون وجسده يتصدع ليخونه في أضعف حالاته. ولسان حاله يقول: كم أنت ضعيفة وبائسة، يا نفسي، ما الذي دهاني لأنساق لهذا الفخ الماكر؟ ولماذا رجعت لهذا البلد في المقام الأول؟ وما هي جريمتي العظمى لينهال علىّ هذا الوابل من المصائب؟ ولكن الحياة عابرة فلما الخوف من الموت، أوليس هو الوحيد الذي سيتبننا في الاخر، عندما يعزف على أوتار قيثارته أنه بذلك يعلن انتهاء مسرحية لحياة شخصًا ما. هل يُعزف نفس اللحن لكل شخص يا تُرى؟ أم يختلف باختلاف الشخص؟ هل الابرار يُعزف لهم كألحان يوهانس باخ المجيدة أو قداس موزارت الحزين؟ ولكن ماذا يسمع الأشرار؟ هل يعذبون بعدم السماح لسحر هذه الاوبرا أن تلمس قلوبهم المتحجرة وأن تُطبع عليهم صُماً بكماً فهم لا يبصرون ولا يشعرون! أنه لحن الموت…
قصة محمد قد تتقاسم الأحداث مع أي قصة أخرى ولكن اختلافها ينصب في بُئرة صغيرة، والتي يتحاشها الكثير إلا وهي دائرة المُسلمات، فالاقتراب منها يجلب اللعنة، لعنة السقوط من جنة القطيع، والحكم عليه بالعقاب المعهود وسفك دمه قُربناً لإله الموت.
استرجع شريط الأحداث والتي تدور في دهاليز المظلمة، وصراعه بدأ عندما سقطت قشور التعصب من عينيه، ليرى الحقيقة بأعين جديدة، تبحث فقط عن الحقيقة، أنها الحرية من عبودية الجهل، أنها مفتاح لباب سجن ظلام الفكر، أنها الترياق لسم قد عانت منه الشعوب لقرون عديدة.