إبراهيم دنقو
قرقعة الطناجر وصليل الاواني وروائح الأكل الطيب المنبعثة من المطبخ أشعلت الحماس في أوصاله المتعبة، ومعدته الفارغة كبئر سحيق جفت مياءه. غير جلسته، حدق في الجدران المليئة بصور لعسكري يحمل النياشين والاوسمة، التلفزيون في الزاوية القصية يبدوا أنه لا يشتغل أو إنهم أقفلوه عن قصد.
لا أحد معه في تلك المربوعه عدا جوعه الذي بدأ يتوحش شيئاً فشيئاً، أنصت إلي صوت الأقدام، اشرأبَّ عنقه، حاول استراق السمع لعلها تأتيه بشاير لعشاء موعود.
تذكر كيف جاء إلي هده المدينة الهادرة المليئة بالأضواء والسيارات والمحلات بواجهاتها الزجاجية البراقة طالبا لفرصة عمل، يحمل حقيبته البالية وقليل من أحلامه الساذجة التي سمعها في القرية الغارقة في الرمال والظلمة وصياح الحيوانات. أخبره أباه عن أقربائه الذين يقطنون تلك المدينة، حكي له عن مئاثرهم التي لم يري منها شيئاً، سوي تلك الوسادة الخفيضة التي آلمت رقبته.
أصوات الجلبة القادمة من النافدة النصف مغلقة بدأ يخفت، الساعة المغلقة علي الجدار المقابل شعر بدقاتها المتثاقلة تسخر منه وتمعن في تعذيبه، ساعة ساعتان ثلاث، أمعائه بدأت في التقاتل، أصواتها كطاحونة قمح، ما عساه فاعلا مع هده البطن الخاوية التي تقعرت كفوهة بركان راكد من آلاف السنين.
تذكر ثلاجة الفريز المنبطحة في ممر الحمام، خرج علي رؤس أصابعه، أصدر الباب صريراً مزعجاً، تسمرفي مكانه لثوان، تابع السير كقط يريد الانقضاض علي عصفور، لفح هواء الثلاجة وجهه المشقق، فتسارعت دقات قلبه، أكياس متيبسة، رأس خروف بانت أسنانه الناتئة، كأنه يبتسم شماتةً، في القاع برزت قطعه خبز منسية منذ شهور، التقطها وقفل عائداً إلي مكانه، كأنه يحمل كنز علي بابا، أمعن النظر إليها، قلبها بحب، هل يأكلها دفعة واحدة أم يقضمها علي مراحل.
استقبلت العصارات في بطنه قطعة الخبز المتجمده بامتعاض، نام وهو يلوك بقاياها العالقة بأسنانه الصفراء، حلم بطنجرة (دشيشة) يقبض عليها بين ساقيه، ورائحة الشحم والفلفل الاسود تطرب أنفه، مع صوت الملعقة تلقف ما التصق بقعر الطنجرة.
استيقض فزعاً علي فحيح أحشائه المتلوية المتحفزة كأفاعي كهف مظلم تلفه الرطوبه العفنة، ودون أن ينبس ببنت شفة، ألقي حقيبته البالية علي كتفه، وخرج لا يلوي علي شيء، غير مودع لتلك المدينة البخيل أهلها.