إنـّي لأستغربنّ أشد الاستغراب، ممّن يُحسبون على الأغنية المحلية، إنْ فنانين أو جمهوراً سواءً بسواء، حينما أراهم ينادون عالياً بضرورة الحفاظ على هويتها، لكأنّ هناك خطراً يتهددها، فكلما ظهرت لأسماعنا أغنية ليبية، تقترب في نمطها من النمط المشارقي، ولست أقول المغاربي، ثارت عصبية هؤلاء على الملحن بالدرجة الأولى، للتمييع الذي يتحسّسونه ويبدو لهم في موسيقاها، لظنِّهم – إذا حسن ظنّي بهم – بأنّ ذلك الغناء، إنما هو ناتج من عملية (توالد عُذري) ولم يكـُن بفعل تأثره بغناءٍ سابق، أي بقصد، أنه وليد تلك الناحية الوافد إلينا من اتجاهها، فهو من ثم، غناءٌ دخيلٌ، نخشى من مزاحمته لفنِّنا، وليس لنا كليبيين، ما لأهل تلك الجهة من نصيب فيه.
وهم إذ يمتعضون من هذا النحو الغنائي، الذي ينتهجه بعض فنانينا، لا نجدهم ينتقصون من جودة هذا الغناء، بل إنهم يقرّون بالمستوى الرفيع الذي هو عليه؛ وربما لإحساسهم بصعوبة اللحاق بالنهضة الموسيقية، التي عُرفت بها تلك المنطقة العربية منذ أواخر القرن الأسبق، ومن حيث لا يحتسبون، يصرّون على اتساع الهوّة بين الغناء هنا وهنالك، حالما لا يُحسنون التعامل بإيجابية مع التجارب المنادية بلزوم الانخراط مع هذا الفن الجميل، الذي أقرّوا برفعته وبهائه؛ وهذه الحالة تشابه إلى حدٍّ بعيدٍ حالة أخرى، غالباً لا نراها تحدث، لكننا نقدر أنْ نتخيلها، حينما يقوم محام ٍ ما بتوزيع تركة موّكله على مستحقيها من بعده، فيقوم أحدهم بالتنازل عن حصته من الميراث، بعدما يستكثرها على نفسه بنفسه، هكذا من تلقاء ذاته؛ فالغناء المشارقي المُتقن، هو أقرب ما يكون إلى الغناء العربي السليم – بموسيقاه ومقاماته وأدائه – منه إلى المغاربي، ذلك لقيام الخلافة العربية والإسلامية في المشرق العربي؛ والحال هذه، علينا أنْ نقبل به وبصياغة ألحان الأغنية المحلية وفقاً للطريقة نفسها، التي يصيغ بها المشارقة العرب في (مصر والشام) أغنياتهم، من دون أي تحسّس بالدونية ولا الجميل، ذلك أنّ الغناء العربي الصحي، هو ميراث ثقافي للعرب كلهم، ولا تقتصر أحقيته على منطقة بعينها من دون سواها.
ولما نسبر غور الأغنيات الليبية الناجحة والعائشة في ذاكرة الليبيين مما أنتج فنانونها، نجدها قد قـُدَّت على طراز الغناء العربي المُتقن، ولكم في أغنيتي: (طيرين في عش الوفا) و(هذه الأرض هي العرض لنا) للملحن والموسيقار الكبير يوسف العالم أصدق برهانين على ما ذهبت إليه في هذه السطور، مع أنني أملك (بنكاً) من البراهين الأخرى لهذا الملحن، ما لا تغفلون أنتم أنفسكم عنه، مثل قصيدة (يا لا ئمي) التي نظمها الشاعر أحمد الشارف وغنّاها المطرب محمد نجم التي تقول مفرداتها:
يا لائمي واللوم لا يُجدي على العشاق شيء .. رفقاً بقلبٍ لم يزل يطوي كتاب الصبر طيّ
رفقاً بقلب مُدنفٍ يكوى بنار الشوق كيّ .. شوق إلى ذكر الحبيب فليته شوقاً إليّ
شوقاً إليّ مؤبداً ومسرمداً ما دمت حي .. لم أسعَ في تبديليه فكأنه وقفٌ عليّ
يا من لحسن حديثه ألوي عنان السمع ليّ .. وسقيت كأس عذابه فوجدته عذباً لديّ
و به سُقيت من الهوى كأس العنا ورويت ريّ .. كم فُهت عنك بلفظة والله يعلمها لأي ..
03.04.2009