قلة هم الفنانون الذين نراهم يغنون وتعابير وجوهم منسجمة مع مضامين الأغاني، فكم من فنّان سمعناه يتغنى بأغنية ذات مضمون حزين على مقام الصبا، وه ويبتسم للجمهور، إنْ لم يقهقه من دون أي سبب، وكم من فنانة رأيناها ترقص على المقام الموسيقي ذاته، وهي تحاول أنْ تشرك الحضور معها في حفلة الرقص، التي تقيمها بدلاً من أن نسمعها تغني، مثلما يجب، كما نستحضر كثيراً من الأغنيات المصوّرة، التي يظهر فيها الفنان محتضناً آلة ( القيثار ) في حين أنّ اللحن الذي نسمعه له شرقي، ولا تصدح فيه أية نغمة لهذه الآلة الموسيقية، وهذه جميعها مؤشرات صارخات على انتفاء وصول الفنان بالجمهور إلى حالة الإحساس الصادق بالأغنية – لحناً وكلاماً وأداءً – فصاحب الإحساس الغائر بالكلمة والنغم ذي الشجن، لا يمكن أنْ نرى على محياه إلا مسحة الحزن تعتريه في إغماضة عينيه، لشدة الألم الذي يعتصره ويعتصر العازفين على الآلات الموسيقية المصاحبة لأدائه، من خلفه، فالنفخ في الناي، يجعله يُخرج ويلفظ كل آهة حرّى من صدره، وصوت الكمان يشدّه ويردّه لما مضى من سني عمره، أما نقرات الدفوف وإيقاعات الطبول، فهي من تزيد من نبضات الحياة في قلبه المفعم بالاختلاجات، فتمتشج في إحساسه المشاعر الإنسانية كافة، دفعة واحدة، لتظهر ممتزجة في نبرات صوته رغماً عنه، لتصيب حتى من في آذانه وقرٌ، ولتستفزك رغماً عنك أنت الآخر، في لحظة وجد، هي التي يطربك فيها بما يُعبّر عنه، فرحاً كان أ وحزناً، وقد تطول بك هذه اللحظة إلى دقائق وربما إلى ساعات متتاليات، وأحياناً حتى طيلة الحفل الغنائي، الذي تستمع إليه، هذا إنْ كنت سعيد الحظ، لكون المغني من طراز رفيع، والرفعة المطلوبة في الفنان، تكون من حيث المستوى، فيجب أنْ يكون من عيار ثقيل الوزن، لا ثقيل الظل، ومن ه وعلى شاكلة الأخير، نعرفه من خلال محاولاته الدائمة، ليخرج الجمهور الحاضر من صمته وبلاهته، التي يكون ه ودائماً سبباً في وقوعه فيها بفنه الغث وغير الجاد، عن طريق التهريج والحركات البهلوانية.
انظروا إلى السيدة ” فيروز ” وهي تغني على المسرح، ترونها لا تسمح للجمهور أبداً، أنْ يُشاركها غناء، ول ومطلعاً واحداً قصيراً من إحدى أغنياتها، فما لزوم تواجدها على ركح المسرح، إنْ كانت ستقف صامتة على خشبته، ولم تستحوذ على آذان المتلقين، وتشدهم إلى صوتها الطريب – فهي لئن حدث ذلك، ستكون كما سواها من فنانات وفناني هذا الوقت، الذين نجدهم يلوحون بمضخم الصوت باتجاه الحضور، كي يوهمونا نحن القابعين وراء الشاشات، بأنّ الجمهور وصل إلى حالة الطرب، لما يغني معهم، في حين أنه ما كان ليقدم على ذلك، لولا أنه أراد أنْ يجامل هؤلاء الفنانين، ليس إلا – بل تحرص على أنْ تغني طيلة زمن الحفل، وهي واقفة كالطود الأشم، لا تلتهي عن ج والأغاني، ولا تلهي الجمهور عن الإنصات إليها، كما أنها لا تطلب منه أنْ يشاركها الغناء، بدليل أنها لا توجه إليه مُكبِّر الصوت أبداً، بل تجعله ساكناً ومرتكزاً على قاعدته، التي تقارب طول قامتها إلا قليلاً، غير ضاحكة ولا مبتسمة، حتى في أغانيها الفرائحية، ما جعل البعض من هذا الجيل، يتوهم بأنها معقدة نفسانياً للأسف الشديد، لكأنه لا يعي بأنّ المطرب في حالة الغناء، يكون كما الشاعر في إلقائه وأكثر بكثير.
ولأنّ القارئ، قد اعتاد مني في كتاباتي الفنية، أنْ أبدأ دائماً بتوطئة تطول أحياناً، غالباً ما أعرض فيها لأحد من الفنانين العمالقة، ثم أعرّج على فنان ليبي يتسق في فنِّه معه، هأنا بعد أنْ أخذت السيدة ” فيروز ” كمثال على الفنان الذي يحسن التعبير لدى غنائه، آتي بفنان ليبي كبير في مقامه الموسيقي والغنائي، فنان لا نرى على ملامح وجهه لما يغني، سوى أصدق التعابير بالمفردة والجملة المموسقة، المُشِعة بالغناء العربي الأصيل غير المصطنع، والنابع من روحه الشفافة، التي ينفذ إليها، ومنها إلينا، الطرب في أسمى تجلياته الفنية بلا ابتذال ولا إسفاف، يجعلك حينما يغني، تترك كل ما يشغلك، لتتسمر أمام الشاشة، أ وجنب السماعة، محافظاً على صمتك وهدوئك، لئِلا يفوتك شيء منها، جاعلاً حواسك الخمسة كلها مُتقِدة، فتتوافق بشأن الحكم الذي ستصدره على أغنياته، فليس الأمر مرهوناً بحاستي السمع والنظر وكفى، بل حتى حاسة الشمّ تفعل فعلها، لأنها تشتم عبق الرياحين وشذى ياسمين الحارة الطرابلسية، لكأنك في خميلة مزدانة بالورود والألوان، وهذا ليس بأمر شاذ ولا غريب على أعماله، التي طالما تغنى فيها بالورود وعطورها وألوانها، كما في أغنيات : (جرت السواقي) و(منديلها الوردي) و(عرجون فل) وغيرها الكثيرات.
لعلكم عرفتموه، نعم ه والفنان ” سلام قدري ” الذي لم يسبق ليّ أنْ التقيت به، ولا تربطني به أية معرفة شخصية، لكني من خلال استماعي إليه، أكاد أنْ أقول لكم : إنني أعرفه معرفة جيدة، فه وكما يبد وليّ من أعماله، فناناً مثقفاً ومجتهداً، وفي سعي دائم، للبحث عن الجديد من الألوان والألحان والورد، التي يضيفها لما لديه منها، ويزين بها خميلته الغنائية الغنـّاءة، فأعماله لا تتشابه ولا تتكرر، وإنْ خُيّل إلى البعض ذلك، فهي نظرة خاطئة، لكونها ربما قد خرجت من قريحة شاعر واحد هو، الشاعر الرائع ” أحمد الحريري “.
بقي أن أختم مقالتي هذه بملاحظة، حيث إنّ ثمة شبهاً كبيراً بين المطرب الليبي ” سلام قدري ” والممثل السوري المعروف ” خالد تاجا ” لكن هذا لا يعني أبداً، أنّ للفنان ” سلام قدري ” موهبة في التمثيل، كما أحسب، ولا في التحكم بتعابير وجهه، فه ولا يفتعل النبرات الحزينة في صوته، ولا يتكلف لإضفاء الحزن على ألحانه الشجية، ولا يصطنع التعابير التي تعل ومحياه، حتى وقتما يشد وفي أغنياته غير المصوّرة، مثل أغنية ( جرت السواقي ) المُعدًّة على اللحن الشعبي القديم، المنسوب إلى مدينة ” هون ” التي كتبها له الشاعر الراحل ” ابن الطاهر ” وهذه كلماتها:
جرت السواقي للشجر وسقاته
والهوى يغني على رقصاته
جرت السواقي ليه
…
التفاح ورًّى خدوده
ع الغطى الرمان بان ونهوده
ونحى العنب ورقه على عنقوده
وجادت نخلة بالرطب ورماته
…
زينات جت ابتملى
ع الخوخ والمشماش شنت حملة
تبسم الورد وضحك من هالعملة
جاته صباع امخضبة قطفاته
…
وحوًّم الطير وغنى
تربع على عرشه ا وورّى فنّه
التموا ولافه فى الهوى وتهنى
طربوا معاه وشاركوا فرحاته..
09.04.2009