لم يسبق في مرةٍ، أن وقعت بين يديّ، وريقاتُ ُ فنية ُ ُ نقدية ُ ُ، تتناولُ تجربة الفنان الليبي “محمد السليني” الذي امتهن الغناء باكرا ً، ولست أقصدُ من كلامي هذا، أنْ أقطعَ بعدم حدوث ذلك أبداً، فربما يكون هناك من الكـُتَّاب من سبقني إلى هذا الأمر، الذي قلمي الآن بصدد إنجازه، في هذه المقالة المتواضعة عن هذا المطرب، وذلك في فتراتٍ سابقةٍ، غير أنني لم أتحصل على نصِّه، ولكن لجمال صوت هذا الفنَّان الأخاذ، وللبصمة التي أحدثها، ووضعها على جبين الأغنية الليبية، فإنه خليقُ ُ بالكتابة عن تجربته الغنائية، ولو من باب لفت الأنظار والأسماع إليها، فهذا المطرب، وكما ذكرت أنفا ً، عرف الغناء منذ أنْ كان يافعا ً، وثمة أغان ٍكثيرة ُ ُ له في محفوظات الإذاعة المرئية الليبية، تعود إلى أوائل سبعينيات القرن المنفرط، أيام كان التصوير بــ (الأبيض والأسود) وهنا أتحاشى أن أقول : “من دون ألوان” لكوني أختلف مع من يقول بهذا، فالرأيُ عندي، أنَّ هذين اللونين من الألوان المعروفة، ولا يصح أن نصفهما بهذا النعت، بحسب تصوري لهذا الأمر، على أية حال، نراه في هذه الأغنيات، يظهر صغيرا ً، حيث إنني، أُرجّحُ بأنْ يكونَ من مواليد مطلع خمسينيات القرن الفائت، وهوَّ يؤدي فيها كلَّ ألوان الأغنية العربية، وعلى الوجه الأمثل، وإن ركـَّز المتلقي أثناء إنصاته للعمل الغنائي الكبير (رحلة نغم) الذي نسج كلماته الشَّاعر الغنائي الرَّاحل “فضل المبروك” وقام بتلحينه الفنان “محمد حسن” وأوكلت مهمة الإعداد والتوزيع الموسيقي له، إلى الموسيقار المصري الكبير “عطية شرارة” إبان عمله بفرقة الإذاعة الموسيقية الليبية، سيلقي في هذا العمل الذي يشبه إلى حدٍّ ما، الملحمة الغنائية الكبيرة، التي قدّمها الموسيقار الراحل “فريد الأطرش” غناءَ ولحنا ً، ومن كلمات الشاعر “بيرم التونسي” هذه الملحمة التي طافت بأرجاء الوطن العربي الكبير من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، وكانت بعنوان (بساط الريح ).
إذ أنّ هذا العمل الكبير، الذي اشترك فيه الفنان “محمد السليني” مع مجموعة لا بأس بها من الأصوات، التي كان من بينها، هؤلاء الفنانون : “سالم بن زابيه” و”أشرف محفوظ” و”لطفي العارف” و”مصطفى طالب” و”فهيم حسين” والفنانتان “عبير” و”تونس مفتاح” والمسجل في عام 1977 – طاف هو الآخر بربوع ليبيا كافةً؛ عموماَ بعد أنْ يركـّزَ المتلقي مليا ً في هذه الملحمة الغنائية، التي عبرت عن اللحمة الوطنية، سيجد في هذا العمل الفني بأجزائه (أشرطته) الثلاثة، وغير المصوَّر مرئياً، أنَّ الفنان “محمد السليني” قد استأسد بنصيب الأسد، وتفرد من دون زملائه في هذا العمل، بمساحات واسعة من الغناء، وهوَّ يتنقل من مدينة إلى أخرى، ومن قرية إلى ثانية، ومن الساحل إلى الصحراء، ومن السهل إلى الجبل، بسرعة ويسر، وبلا معاناة من السفر تبدو في صوته، لكأنه يتـّخذ من (بساط الريح) المريح، مطيّة ً له أثناء ترحاله وتجواله، وبمقدرة فنية فائقة، إذْ أنه من خلال إمكانيات صوته العظيمة، استطاع أنْ يُغني لونَ كـُلِّ منطقةٍ يحط ُّ به الترحال فيها، وبكلِّ خصوصياته التي يمتاز به، فغنى الأغنية الجبلية، القريبة جدا ً من الموجودة في جبال سوريا ولبنان، وكذلك الأهزوجة الشعبية والموَّال، وما إليها من أنماط الغناء العربي الأخرى، وما يزال ذلك المقطع، الذي تغني فيه بمدينة بنغازي، ناشبا ًفي ذاكرة أهلها، وعالقا ًفي ذائقة المستمع، خصوصا ًسُكان حي (الصابري والبركة وسيدي حسين) وهوَّ ينشد بصوته المُعبِّر:
يا عين ياعين أنتي هنا والغالي وين
يا عين يا عين بين البركة وسيدي حسين..
بعد أنْ تردد قبله مجموعة الأصوات (الكورال) التي هي أصلاً، أصواتُ زملائه من المطربين، الذين اشتركوا معه بالتناوب في أداء هذا الملحمة الغنائية الطويلة الزمن، بقدر اتساع الرقعة الجغرافية لليبيا، هذه الشاطرة القائلة :
صابري عرجون الفل.. صابري عمره ما ذل
صابري زين على زين.. صابري ورد وياسمين..
ولعلّ من الملاحظ أيضاً، أنَّ هذا الفنَّان المتمكن، يملك قدراً كبيراً من الوسامة وحسن المظهر، إلا أنه لم يعتمد على هاتين الميزتين، اللتين يتمتع بهما في مشواره الفنّي، بقدر استناده إلى جمال الصوت والأداء اللذين يحوزهما، ليس كما يفعل بعض ُ ُمن مغني اليوم، الذي طغى وغطـَّى لديه حسن الشكل على جمال المضمون الفنّي الذي يقدِّمه لنا، حتى تحوَّل إلى مجرد مروج ٍ للسلع الاستهلاكية، بعد أنْ أضحت هذه الظاهرة غير الصحية، أقصر وأسلك سبيل للنجومية والعالمية، اللتين يسعى إليهما هذا البعض، غير المحسوب على الغناء، فمن أراد منه أنْ يصلَ إلى العالمية، فما عليه إلا أنْ يقبلَ بأول عرض ٍ يأتيه للترويج لسلعة ما، في مشهدٍ دعائيٍّ (متلفز) برعاية الشركة المُصنِّعة لها، والمستغلة للشعبية التي يحظى بها بين صفوف المراهقات، كمثل ما نراه في الاستقطاعات المُمِّلة لبرامج أية قناة فضائية، حين ترويجها للـ (بيبسي كولا) مثلا ً، أو أي نوع من العطور، فأنا أستغربُ أيما استغرابٍ، لما يرضى هذا البعض من المغنين، بأنْ يُركـّب بعض الكلمات السوقية المروجة لمنتوج ما، على لحن ٍ من ألحان أعماله، التي يقول عنها، بأنها غالية عليه مثل أبنائه، وذلك مقابل حفنة من الدولارات، والأدّهى من ذلك، هو أنه يعيشُ في بحبوحةٍ، وليس بحاجةٍ إليها ماديا ً، ولكن ربما تكون النجومية، هي المهماز الذي حمله على هذا.
لنعُد الآن بعد هذه البسطة إلى صلب الموضوع، فإنّ لهذا الفنَّان، الذي ما تزال زهرة شبابه يانعة ً فنيا ً، صوتا ً أصيلا ً، يجيدُ أداءَ الأغنية العربية بكلِّ صنوفها المعروفة جيدا ً، وهو بحسب اعتقادي، الذي أكاد أنْ أجزم به، أفضل من أدَّى فنَّ الموَّال، ذلك لتوافر الشروط والمقاسات الفنية اللازمة لأداء هذا النمط الغنائي العربي الأصيل والصعب كلها، في مخارج صوته، وفي مستويات طبقاته العالية والمنخفضة والمتوسطة أيضا ً، وتتجلى هذه الأمور استماعا ً، في أدائه لموَّال (ياما الجبل فيه من حكاوي) لدى تقديمه للغناء عن الجبل الأخضر، عرين شيخ الشهداء ” عمر المختار ” وذلك ضمن ملحمة (رحلة نغم) التي نحن بصددها، إذ أنَّ هذا الجبل الأشم، أعدُّه البوتقة، التي تنصهر فيها ألوان الغناء العربي الصحيح والصحي جميعها، هذا فيما عدا المقامات الموسيقية المنتمية إلى هذا الغناء، كما أنّ هذه المنطقة، التي هي عبارة عن سلسلة جبلية ممتدة شرقي ليبيا، غنية ُ ُبعددٍ زاخر ٍ من الآلات الموسيقية الشعبية والحديثة المتعددة الأغراض، وبالعازفين عليها كذلك بطبيعة الحال، وهذا ما يتضح جليا ً في قوله ضمن هذا الموّال، ومن خلال هذه الكلمات المُغناة :
ياما الجبل فيه من حكاوي
يرويها الكشك والمجاريد في غناوي..
فهذا بمثابة اعتراف منه، وهوّ الفنان العارف بأسرار الغناء، بهذه الحقيقة.. و(المجاريد) جمع (مجرودة) وتشكل مع (الكشك) ضربين من الألوان الغنائية الشعبية في منطقة الجبل الأخضر؛ المهم في أدائه لهذا الموّال إجادته له، وتقمصه للأداء الحقيقي، الذي يؤديه أهلُ هذه المنطقة، على الرغم من أنه ينسبُ إلى مدينة طرابلس الكائنة غربي البلاد، وما جعله ينشد هذا الموال بأرياحية ملحوظة، على الرغم من احتوائه على فترات زمنية طويلة جدا ً، ليس بمكنةِ أيِّ فنَّان أدائه بالكيفية نفسها، التي أنشده بها هذا الفنان، هو النفس العميق الذي لديه، ومعرفته بأصول الغناء.
ما نزال دائما ً في منطقة الجبل الأخضر، فبعد خروجه من أداء هذا الموّال، الذي أدَّاه منفردا ً، يشترك بعد ذلك مع صوت ملحن العمل ” محمد حسن ” في أداء مقطعا ًغنائيا ً ثنائيا ً(دويتو) هو عبارة عن جملة موسيقية من الموروث الشعبي (الفلكلور) يقولان فيها :
سبحان اللي هنتك وهونتيني
انسيتك بعد ولعات وانسيتيني..
و هوَّ في أدائه لهذا العمل، يبرز لنا إمكانيات صوته، الذي يتقاطر عذوبة ونقاءً، في أذن المستمع، كما قطرات العسل في ريق ظمآن وسقيم.
و الحقيقة تقال إنّ تجربة الفنان “محمد السليني” لا يمكن اختزالها في هذا الملحمة وكفى، فله العديد من الأعمال، التي عرّفت المتلقي بصوته قبل مشاركته فيها، ومما لا شك فيه البتة، أنَّ أعماله السابقة كانت رائعة، ومسَّت مشاعرَ النَّاس وشِغافَ قلوبهم، من خلال صوته الحسن، وليس على سبيل الحصر بل المثال، أذكر منها هاتين الأغنيتين: (م المغرب تقوى ناره) التي أعادت تقديمها الفنانة التونسية ” لطيفة العرفاوي ” في الفترة القليلة الماضية، وكذلك أغنية (يا جدي الغزال) التي أعدها له الملحن “عبد المجيد حقيق”.
الخاتمة :
ومما تجدر الإشارة إليه، وأراه خير خاتمة لهذا المقال، هو التذكير بأن الفنان “محمد السليني” قد اشترك أيضا ًفي غناء نشيد (وطني الكبير) في محفل عربي مهيب، على أحد المسارح في ليبيا، جنب إلى جنب، مع نخبة من الفنَّانين العرب الكبار، أذكر فيما أذكر منهم : “فهد بلان” و”فاتن الحناوي” وشقيقتها المطربة السورية الكبيرة “ميادة الحناوي” والفنان الراحل “مصطفى نصري” وابنته المطربة “أصالة نصري” وكان صوته، على الرغم من زحمة هذه الأصوات المرموقة، بادياً وبارزاً، على قدم المساواة معها، ليخرج بهذا العمل من مناداته وفخره باللحمة الوطنية، التي شارك بها في (رحلة نغم) إلى المناداة بالقومية العربية، بمشاركته في هذا النشيد، فهذا الفنان الذي بدأ الغناء صغيرا ً، ولد فنانا ً، وليبقى كذلك.
17.02.2008