لعلكم تذكرون بأنني فيما مضى من مقالات، نشرتها عبر هذا المنبر الإعلامي، كنت قد تحدثت فيها عن رموز الأغنية الليبية الحديثة، من حيث التأليف الغنائي والتلحين والأداء أيضاً، مُفرِداَ لكل واحد منهم مقالةً على حِدة، ذلك أنني كنت أرمي من وراء ذلك، إلى رسم خطةٍ للإفضاء بها إلى هذه المقالة، التي أنتم تقرؤونها الآن، أي أنني، أردت من تلك المقالات السابقة، أنْ تكون عبارةً عن تقدمةٍ لما يخطـُّه قلمي تواً، فبعد أنْ أفردت بصدد التلحين، مقالتين منفصلتين عن بعضهما بعضاً، تناولت من خلالهما، التجربة اللحنية للإبراهيمين (إبراهيم أشرف وإبراهيم فهمي) وأكثر من مقالة أخرى، تحدثت فيها عن الشاعر الغنائي ” فرج المذبل ” وكذلك عن صوت من أصواتنا الغنائية الأصيلة، ألا وهوّ الفنان ” عادل عبد المجيد ” بخصوص الأداء، أرى أنه قد حان الوقت المناسب، لنرى كيف كان حال الأغنية المحلية، بعدما ائتلفت هذه الأقطاب ذات القدرات الفنية العالية، وبما انعكس هذا الانخراط فيما بينها على حالها، بيد أنَّ كل واحدٍ من هؤلاء المذكورين، أعدُّه جُهبذاً من جهابذة الأغنية الليبية، كلُ ُ بحسب المجال الذي هو فيه، فقد أسفرت التقاءاتهم المتكررة، في عِدةِ مناسباتٍ فنيةٍ، عن عِدةِ حالاتٍ فنيةٍ، أراها تصلح لأنْ تكون جميعها حالات نموذجية فنية، يجب أنْ يُنظَرَ إليها بعين الاعتبار، ويُستمَع إليها بأذن الاهتمام من قِبل المعنيين والمُغنين، لأنه قلما أنْ يحدث مثل هذا الاجتماع الفني، والأكثر قلة من ذلك، هو أنَّ المواءمة التي حدثت بين هذه الأعمدة وغزارة الإنتاج، التي نجمت عن هذه الحالات مع الحفاظ على الكيف الجيد، نادرُ ُما تحصل، حتى على الصعيد العربي برمته، باستثناء الحالة الرحبانية الفيروزية.
و لسبر غور هذا النجاح واستكناه، ألاحظ من جهتي، أنّ القاسم المشترك في هذه الحالات، التي سأعرض لها لاحقاً، كان المؤلف الغنائي ” فرج المذبل ” بمفردته الرائعة والعميقة المعنى، وباختياره للمضامين الحديثة والمختلفة كل الاختلاف عن السائد والموجود، وكذلك بحثه الدؤوب عن الجديد في كل مرحلة من مراحل تعامله مع الملحنين، الذين تعاون معهم، وذلك ما يتضح للمستمع وقارئ هذا المقال، في هذه الحالات التي حدثتكم عنها قبلاً،والتي سألخصها لكم في المحاور الآتية الذكر.
– الحالة النموذجية الأولى
تشكلت هذه الحالة، عندما اجتمع ثلاثة من فرسان الأغنية الليبية، وهم الشَّاعر الجميل ” فرج المذبل ” والملحن الفذّ ” إبراهيم أشرف ” وصاحب الصوت الأنيق ” عادل عبد المجيد ” في فترةٍ ما من سبعينيات القرن المنقضي، واستمرت حتى أواخر العقد الثامن، فقدموا لنا أغنيات تأتي في صدارة قائمة أجمل ما تغنى به الليبيون بلا منازعين، قديماً وحديثاً، فنجمت عن التقائهم الفني عديد الأغنيات، التي لا مندوحة من سردها الآن، لكني سأذكر لكم نماذج منها، وخاصة القريبة من المستمع، مثل (الوعد) و(متغيرين) و(يصعب علينا) واستمرّ تعاون كل من الكاتب والمُلحِّن معاً، فقدّما أعمالاً أخرى بصوت مطربين آخرين، وليس من باب الحصر، بل المثال، يحضرني اسم الفنانين: “وحيد سالم” و”محمد حسن” وغيرهما الكثيرون، ولعلّ ما يلفت الأسماع في هذه الحالة الأولى، ما قدّمه هذان الفنانان لصوت نسائي جميل، وهوّ صوت الفنانة “سالمين الزروق” التي من ألمع وأبرز أعمالها معهما، أغنية (غيّب عليّ) التي يقول مطلعها:
غيّب عليّ.. عليّ غيّب.. ياللي عليّ ما تغيب
– الحالة النموذجية الثانية
نشأت هذه الحالة، لما حدث نوع من التّماهي في الأحاسيس بين الشاعر نفسه والمطرب “عادل عبد المجيد” فشكلا معاً ثنائياً فنياً، مثل ما حدث مع الشاعر “عبد السلام زقلام” والملحن “إبراهيم فهمي” وقد حدثت هذه التوأمة الغنائية أيضاً، بين الشاعر “عبد السلام قادربوه” والملحن القدير “يوسف العالم”.. عموماً لست الآن في وارد ذكر الثنائيات في هذا المقام، فثمة أكثر من ثنائي عرفته الأغنية الليبية ؛ فقد صار المطرب “عادل عبد المجيد” هو من يُلحّن كلمات الشاعر “فرج المذبل” بنفسه، فطرحا لجمهورهما، كوكبة من الأعمال الرائعة، وأعزو ذلك إلى التقارب العمري الذي بينهما، إذ أنهما كما أتصوّر، من مواليد أوائل أربعينيات القرن السابق، فهما إذاً أبناء جيل واحد، ولهما الأفكار والرؤى ذاتها، وتأتي على رأس قائمة هذه الأنغام، أغنية (هز الشوق حنايا الخاطر) التي ما من ليبي إلا ويحفظها ظهراً عن قلب، ولا ننسى كذلك بعضاً من الأعمال التي نجمت عن هذا التقارب والتزاوج، اللذين حدثا بينهما، حينما تعامل كلاهما مع عدة أصوات عربية ومحلية، كالفنانة “سلوى الجزائرية” التي تحدثنا عن أغنيتها (يا بنتي) في مقالة سابقة، لكننا في هذه الفرصة السانحة، سنتكلم عن عمل لهما، بعنوان: (أي والله يا عز الغوالي) الذي تقول كلماته:
أي والله يا عز الغوالي.. أي والله يا شاغلين بالي
من غيركم يوم ما حنت عيوني.. ولا انغني بشوق لغيركم موالي
هذا العمل الذي أدّاه الفنان الكبير “سالم بن زابية” في بداية العقد المنصرم، وهو يصدح بصوته الرنان، الذي لم يحدث، أنْ علت عليه أصوات الآلات الموسيقية، طيلة زمن هذه الأغنية ولا في أي مقطع منها، حتى ليخيَّل إليك وأنت تنصت لها، بأنَّ الصوت الذي يخرج من حنجرته الذهبية، كأنه يصدر من آلة موسيقية، لأنه كان أقرب إلى طبقة (السوبرانو) وهي أعلى درجة في الأصوات الحادة، التي تتميز بها الأصوات النسائية عن الرجالية في الغناء (الأوبرالي) المعروف في أوربا.
– الحالة النموذجية الثالثة
في واقع الأمر، إنّ الضرورة التاريخية، تُحتم عليّ، أنْ أجعل هذه الحالة تجيء في محل السابقة، غير أنني، آثرت أنْ تكون هي التي أختم بها سرد هذه الحالات النموذجية، لكونها غنية جداً بالعطاء والتميز، فقبل أنْ يُلحِّنَ المطرب ” عادل عبد المجيد ” لنفسه كلمات الشاعر ” فرج المذبل ” كان قد تغنى بألحان المطرب والمُلحِّن وعازف آلة (القانون) المعروف “إبراهيم فهمي” ولعلّ ما يتقافز إلى الأذهان من أغاني هذه الحالة النموذجية أغنية (عاتبيني) التي قام بغنائها حديثاً الفنان الشاب “أيمن الأعتر” غير أنني أُحبذُ الاستماع إليها من المطرب “عادل عبد المجيد” ولكني إحقاقاً للحق، أُصرّح بأنَّ الفنان “أيمن الأعتر” قد أدّاها بأسلوب جميل، ذلك أنه يحتكم على صوت أخّاذ وجميل جداً، وأني أراهن على أنه، سيكون له شأنُ ُ في مجال الغناء، ثم أنّ المُلحِّن ” إبراهيم فهمي ” نفسه، كان قد لحَّن لهذا الفنان الشاب أغنية رائعة، لا تحضرني الآن، قبل أنْ يلمع اسمه عربياً، إيماناً منه بموهبته عندما كان طفلاً.
ما نزال دائماً في هذه الحالة الغنائية، لنتناول تجربة الشاعر “فرج المذبل” والمُلحِّن “إبراهيم فهمي” من زاوية أخرى – أي – مع الأصوات النسائية، فقد كانت تجربة ثرية، حيث إنَّ هذا الشاعرَ المُثابِرَ، كتب عديد الأغنيات، ورشّح لمَهَمَةِ التلحين، هذا الملحن، كي تؤديها الأصوات النسائية على قلة الأسماء الموجودة آنذاك، فكانت أعمالاً رائعة ومدروسة جيداً ومُعبِّرة بصوتين نسائيين عرفتهما الساحة الفنية في العقد الأسبق، تتوجت بعدة أنغام أدّتهما الفنانة “سالمين الزروق” في أغنية (عاهدتني) و(زاهيات معاك أيامي) ولما كنا قد تناولنا الأغنية الأولى في مقالة مطولة سابقاٌ، فسوف نفسح المجال للحديث عن الثانية في هذه المرة بإيجاز، تقول كلمات هذه الأغنية:
زاهيات معاك أيامي.. نايرات شموع أحلامي
و الغناوي حلوة حلوة.. وعمري تساوي
عمري كله بشمسه وظله.. بيك يحلا وأنت قدامي
و لا ننسى بعد ذلك، أغنية ثالثها لها مع الشاعر نفسه، ومن ألحان المُلحن “إبراهيم فهمي” بعنوان: ( ونست عيني السّاهرة المشتاقة ) التي تقول كلمات مقدمتها:
ونست عيني السّاهرة المشتاقة.. يا طيف من صاعب عليّ فراقه..
والتي أخرجها (تلفزيونياً) الشاعر “فرج المذبل” بعد أنْ أظّهر كلماتها من عمق تجليات مشاعره، وسآتي على ذكر صوت نسائي آخر فيما بعد.
أما الصوت النسائي الثاني، الذي شكّل هو الآخر، عنصراً من عناصر هذه الحالة، فهو صوت الفنانة “فاطمة أحمد” في أغنيتين ستظلان بتصوري، من أفضل وأروع الأغنيات المُقدَّمة بالأصوات النسائية، التي عرفتها الأغنية الليبية الحديثة، فقد غنّت لهما أغنيتي (الله يسامحك) و(أنا وياك يا عز الرفاقة) التي تقول مقدمة كلماتها:
أنا وياك يا عز الرفاقة.. ربيع وحب ما تذبل أوراقه
و مما يلاحظ في هاتين الأغنيتين، اللتين تغنت بهما المطربة “سالمين الزروق” وفي النغمين الآخرين، اللذين أدتهما مواطنتها الفنانة “فاطمة أحمد” هو المُقدّمة الموسيقية الطويلة، التي وضعها الملحن “إبراهيم فهمي” لكل عمل من هذه الأعمال، التي تنمُّ عن ذهنية موسيقية فائقة، يتمتع بها هذا المُلحِّن والمطرب المخضرم.
أخرجُ بكم الآن، إلى ملخص ما فات من معلومات، فقد بذلت قـُصارى جهدي، لأنْ أذكر ولو لمحات من ثلاث حالات فنية، أراها خير نماذج للأغنية الليبية المعاصرة، وتصلح لأنْ يعرف من خلالها القارئُ والمُستمِع العربي، هوية هذه الأغنية، التي أرى أنها لم تُقدّم كما ينبغي للآخر، لِما نتج عن مخاضها من أعمال رائعة كماً وكيفاً، أدَّاها الجنسان من الأصوات (الرجالية والنسائية) وأعدّها ثلاثة من الملحنين الكبار، غنّى اثنان منهم أعمالاً من تلحين أحدهم، فقد تغنى المطرب والملحن “عادل عبد المجيد” عدة أغاني من ألحان الفنان “إبراهيم أشرف” وبالمثل أدّى الملحن والمطرب “إبراهيم فهمي” هو الثاني أغنية (السعد مواعد يا فرحة) للملحن العبقري “إبراهيم أشرف” غير أنّ القاسم المشترك لهذه الحالات الغنائية النموذجية، تمثل في مفردة الشَّاعر المعروف “فرج المذبل”.
– الخاتمة
حاولت في هذه العُجالة، أنْ ألمَّ بأسماء لامعة عرفتها الأغنية الليبية، وبجانب يسير من أعمالهم، بما يسّرته ليّ ذاكرتي، حيث إنني، لم أعتمد على مرجع فني معين، أجدُ فيه المعلومة التي أرتكز عليها، بدليل أنكم سوف لن تجدوا أي تهميش لذكر عنوان أي مرجع في ذيل هذا المقال، فعلى الرغم من زحمة الأسماء والعناوين المذكورة، إلا أنني أتمنى على ذاكرتي أنْ تكون، قد أسعفتني في هذا النص، عند ذكرها لهذه البيانات والمعلومات.