سالم الهمالي
التاريخ الليبي الحديث وربما القديم أيضا، يتميز باستثناء عن محيطه الجغرافي في الطريقة التي يتعامل بها الليبيون مع فترات حكمهم المتعاقبة، وحتى يمكن الاستفاضة في إيضاح الغاية اسرد بإيجاز ما عليه الحال في دول الجوار.
في قلب العاصمة تونس يجد السائح اثرا واضحا لمن حكمها في السبعة عقود الماضية، فشارع الحبيب بورقيبة وتمثاله الذي يزينه شاهدا على فترة التأسيس التي تلت الاستقلال، وميدان السابع من نوفمبر في نهايته يؤرخ لمن تلاه في الحكم، بالرغم من ان الثاني انقلب على الاول وأزاحه عن كرسي الحكم، إلا ان ذلك لم ينتج عنه مسح تاريخ بورقيبة بإيجابياته وسلبياته كذلك، ضريحه يظل شاهدا على ذلك.
ثورة يوليو 52 أنهت حكم الخديو، الذي حظي بتوديع في ميناء الإسكندرية، ومع الانتقاد الكبير لحكمه من رجال الثورة الجدد إلا انهم لم يشطبوه من تاريخهم، وكذا الحال مع عبدالناصر بالرغم من الحملة المضادة التي تزعمها السادات ضد سياساته وفترة حكمه، فشواهد فترته باقيه من السد العالي الى ضريحه. السادات نفسه الذي اغتيل في يوم الاحتفال بحرب 6 اكتوبر سنة 1981 له مزار ويجد من يمدح ومن يقدح في قراره بالسلام او الاستسلام، كل حسب رؤيته، وتوقيعه اتفاق كامب ديفيد. أما مبارك، فيكفي القول انه يعيش آمنا مطمئنا في بلده مصر بالرغم من ان شعبه انتفض عليه في ثورة يناير التي شهدت اول انتخاب لرئيس مصري شعبيا عبر التاريخ، ارتدادات ثورة يناير أزاحت مرسي وأدخلته السجن، واقامت له جنازة صغيرة، ودفنه أهله في مقابر عاصمتها القاهرة.
زيارة الجامع الأزهر ليست ذات قيمة دينية فقط، بل يمكنك ان تقرأ التاريخ من خلال صور وسير شيوخه الذين تعاقبوا على إمامته، وكذا الحال مع الجامعات المصرية هيئة سكك الحديد والمتاحف وغيرها، بل حتى المدارس تحتفظ بسجلات ووثائق توثق تاريخ المعلمين والأساتذة الذين تولوا القيادة في تلك المرافق والمؤسسات. التجوال في القاهرة يمكنك من التعرف على التاريخ المصري من عصور الفراعنة القدامى الى حاضر التاريخ مرورا بآثار الفاطميين وقلعة محمد علي الى تمثال عرابي وميدان طلعت حرب. كل هؤلاء من رمسيس الى نجيب محفوظ هم التاريخ المصري المتعاقب الذي احتفظوا به واحدا تلو الآخر.
نعود الى ليبيا، حيث نجد النقيض تماما، سياسة محو او حرق المراحل، فلا تبدأ مرحلة إلا بعد ان تهدم وتزيح وتمسح كل ما سبقها: ثورة سبتمبر اجتهدت بكافة الطرق والوسائل في محو تاريخ المملكة الليبية وهدم اثاره ما استطاعت، حتى اصبح ذكر سيرة الملك (رحمه الله) تكاد تكون جريمة يعاقب عليها القانون !!… خلال 42 عاما استحال مشاهدة علم الاستقلال/المملكة في العلن، اذ ان ذلك كفيل بتوجيه الاتهام بالرجعية وما يتبعها. تجريم فترة الحكم الملكي وصبغها بكل الآثام هي الديدن، عمالة خيانة فساد رشوة وهلم جرا.
في وزارة الخارجية لن تجد اثرا لوزراء الخارجية الذين تعاقبوا على المنصب منذ انشاء المملكة الليبية في 24 ديسمبر 1951، لا اسماء لا صور ولا حتى ارشيف يحتفظ بمراسلات حكام ليبيا مع العالم او العكس. حالة من العداء مع الماضي والأرشفة، لا مثيل لها في العالم اجمع.
هناك من يقول – لست متأكدا تماما – ان ارشيف المخابرات الليبية تبخر بعد ثورة فبراير، سيرا على نفس النهج في محو وازالة وتدمير كل ما سبق، حتى ما يتعلق بأمن البلاد ومواطنيها.
المناكفة السياسية تستسيغ هذه الحالة وتستخدمها للتدليل على فساد نظام الحكم، إلا ان الواقع يشير الى ابعد من ذلك، اذ يبدو انها صفة متأصلة في الشخصية الليبية: هدم ما سبق وإنكاره والعمل على محو اثاره.
شائع جدا في ليبيا تولي أشخاص جدد لمناصب في وجود شاغليها، ودخولهم الى مكاتبهم بالقوة بعد ان (يعتلوا) الاقفال، وتغييرها بأقفال جديدة! بعضهم الآن يأتي ومعه “كتيبة”!!
هل ستجد صور وسيرة من تولوا رئاسة جامعة (بنغازي/ قاريونس) منذ انشاءها في مبنى الإدارة او مكتب الرئيس؟! … اشك في ذلك. هذا ليس استثناء، بل هو العموم؛ الوزير يلغي العقود التي وقعها من سبقه ويعرض عقود جديدة، والأمين او المسؤول يقوم بنفس الامر.
العُقدة مِن الماضي او العداء له امر عجيب وغريب، ارشيف السجل العقاري طالته اليد السوداء بالعبث، والسجل المدني كذلك. أهم مراكز توثيق الأراضي والعقارات والبشر والنفوسية ؟!
العداء مع الماضي حالة (مَرضية)، تلقي بظلالها على الحاضر الذي يشهد اكبر عملية تدمير وتجريف للجغرافيا والتاريخ والاقتصاد بل طالت حتى الذاكرة الليبية …