المقالة

بين دون كيشوت وميكافيللي

جمال الزائدي

 

في دولة المواطنة والكرامة التي يحلم بها الليبي المثقل بوجع ساعات الوقوف السيزيفية أمام محطات الوقود ومراكز توزيع غاز الطهي وعربات توزيع السلع المدعومة وبوابات التفتيش العشوائية..

في دولة الأمن والأمان والمؤسسات والعقد الاجتماعي ..تستطيع أن تحب “الشهيد الصائم” في قلبك كما تريد ..وتستطيع أن تكره “الطاغية” في قلبك كما تشاء ..لكن عندما نحتكم جميعا للعقل والموضوعية فلن نجد بدا من الإعتراف بأن زمن الجماهيرية كان ويظل جزءا من تاريخ بلادنا له ما له وما عليه ولن يلغيه حقد حاقد ولن يحميه من النقد والتقييم عشق عاشق ، شأنه شأن الملكية السنوسية ..

غير أننا كليبيين ندرك تماما أن الوصول إلى تلك الحالة من الوعي وإعتماد ما يسميه الفكر السياسي ” المنطق العام ” في الصراع الأزلي على السلطة..سيستغرق وقتا طويلا ، ربما زمن جيل بأكمله أو حتى أكثر..

بالنسبة لنا نحن طبقة المحكومين ما يعنينا في هذه المرحلة إستعادة الإحساس بوجود الدولة والتنعم بخدمات مؤسساتها .. ونستطيع تحت وطأة الإحساس بالكارثة المعيشية التي نكابدها ويكابدها أطفالنا أن نعزل مشاعرنا وأفكارنا وقناعاتنا في سبيل تحقق الجزء المادي من حقوقنا التي صارت أحلام ومطالب..مطلبنا تعليم معقول وقطاع صحي يحفظ الحد الأدنى من آدميتنا في المرض والموت ، وأسعار لا تتجاوز بأرقام فلكية مستوى متوسط رواتبنا ومعاشاتنا الشحيحة ، وأجهزة شرطية توفر الحماية والأمان لنا في شوارعنا وبيوتنا..

طوال السنوات الماضية كان خلاف الفرقاء على السلطة يشطر المجتمع الليبي إلى فسطاطين ..فسطاط حق وفسطاط باطل ..معسكر ملائكة ومعسكر شياطين.. وقتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ..وكان كل فريق يعتبر مجرد الاعتراف بحق الآخر في الإختلاف هو خيانة وتنازل لا مبرر له ، فما بالك بالحوار معه والجلوس حول طاولة تفاوض واحدة ، ففي المفهوم الليبي – وهو جزء لا يتجزأ من المفهوم الشرقي – السلطة زوجة أو عشيقة لايجوز مشاركة الآخرين فيها على طريقة الديمقراطيات الغربية القائمة على المشاركة والتداول السلس عليها – اقصد السلطة وليس المرأة بالتأكيد –

هذا الشطط في الخطاب السياسي ، لاترتد آثاره السلبية على الطبقة السياسية الحاكمة  وطلاب السلطة ممن يقيم معظمهم خارج البلاد حيث تتمتع أسرهم وأبناؤهم بالإقامة الطيبة والتعليم الجيد والرعاية الصحية الممتازة ..لكن أهوال أثاره تقع على عاتق الطبقات الشعبية المسحوقة المحاصرة بضنك العيش والمعاناة والمكابدة في توفير أقل ما يمكن من عوامل الحياة البسيطة لعائلاتهم وأطفالهم..

إن من يرفعون الشعارات الطنانة المفرغة من المضامين الإنسانية والوطنية الحقيقية ، ولا يمانعون في إستمرار الأوضاع على ما هي عليه لأطول فترة ممكنة هم أنفسهم الذين يملكون القدرة للتحكم في غابة البنادق المنتشرة في كامل جغرافية البلاد بالتنسيق مع السفارات الأجنبية عربية وأوروبية ، وهم أنفسهم الذين يهيمنون على مفاصل الاقتصاد ويتقاسمون السيطرة على أسعار العملة الصعبة والأموال المتدفقة إلى الخارج في شكل إعتمادات بمئات الملايين المنهوبة من جيوب الليبيين ليعيدوها إلينا في شكل حاويات فارغة أو مملؤة بمكعبات اسمنتية أو سلع منتهية الصلاحية ..

فلنواجه هذه الحقيقة الموجعة : – إن السلام والاستقرار وعودة المؤسسات والدولة بغض النظر عن هويتها السياسية ، ليس مصلحة عامة لكل الليبيين ..لا هؤلاء الذين يرفعون قميص فبراير بشقيها المدني والاسلامي ويحتلون مقاعدهم الفاخرة في مجلس النواب ومجلس الدولة ، ولا أولئك الذين يتذرعون بالنظام السابق ويتمسحون بإسم معمر القذافي ويجوبون العواصم العالمية ويقيمون في فنادق الخمسة نجوم ..فكثير من هؤلاء وأولئك ، لم يشاركونا النوم وقوفا أمام المصارف أطراف الليل وأناء النهار ، ولا رعب الانشغال على أطفالنا في المدارس الحكومية ، إذ تتهاطل صواريخ وقنابل الأشاوس كالمطر في طرابلس وبنغازي وسرت ودرنة وووو ..ولا معاناة البحث عن دواء مفقود رغم أسعاره الفلكية ولا ذل الانتظار في بوابة عشوائية يقوم عليها فتيان مراهقون نصف سكارى ونصف مخدرون..ومع ذلك فنحن لا ننكر على حكامنا المتصارعين شرعية أحلامهم وطموحاتهم ..وكل ما نطلبه منهم أن يتفقوا فيما بينهم على أن  لا أحد أشرف من أحد ولا أحد أحق من أحد في السعي إلى السلطة إلا بمدى الإلتزام بقوانين اللعبة ..ولكي تظل اللعبة منطقية ونظيفة على الجميع أن يكف عن توظيف الإرث اللغوي في الفخر القبلي والجهادي ( هذا فارس وهذا مرتد ..هذا وطني وهذا عميل(..بالنسبة لنا كمواطنين محكومين جميع طلاب السلطة سواء.. من أقصى اليمين الفبرايري إلى أقصى اليسار السبتمبري وأقربهم إلى نيل احترامنا هو من يحترم عقولنا ، ويوازن بين طموحاته الشخصية في الوصول إلى الحكم وبين المصلحة الوطنية العامة ، والثوابت التي لا خلاف حولها بين الجميع ..

الواقعية السياسية ليست رذيلة إلا بمقدار ما تكون الطهرانية السياسية المزعومة رذيلة.

.وبين دون كيشوت وميكيافيللي تكمن فضيلة الوسطية في وقت نحن أحوج فيه لوسطية العقل.

_____________________

نشر بموقع الأيام.

مقالات ذات علاقة

ما زلت نا هو نا!!!

عبدالرحمن جماعة

عبد الونيس محمود: 11 سنة في السجن الانفرادي*

سالم العوكلي

المحتوى الليبي على الإنترنت

المشرف العام

اترك تعليق