من (الأفيكوات) إلى (يوميات وطن ومواطن)
كتابة اليوميات والمذكرات والسير الشخصية رغم أهميتها ظلت لسنوات عديدة جنساً سردياً نادراً، يقل ظهورها في المشهد الاجتماعي والثقافي الليبي سواء كانت يوميات أدبية أو سياسية أو سجنية أو سياحية أو تاريخية أو غيرها مثل (اليوميات الليبية) للراحل حسن الفقيه حسن، وقصص (سجنيات) الأديب عمر الككلي، و(يوميات مغاربية) للأستاذ عمار جحيدر، و(رحلتان) للدكتور الراحل علي فهمي خشيم، و(ليبي في اليابان) للراحل الهادي المشيرقي الذي وثق مشاهداته في رحلته السياحية لليابان خلال خمسينيات القرن الماضي، وكذلك كتاب (ليبية في بلاد الانجليز) للراحلة خديجة عبدالقادر التي سجلت انطباعاتها حول الدورة التدريبية التي تلقتها في بريطانيا، وغيرها.
ولكن مع صدور كتاب (أفيكوات) للكاتب الصحفي جمال جمعة الزائدي سنة 2021م والتي يدوّن فيها يومياً مشاهدات وحوارات رحلاته الصباحية متضمنة اهتمامات وانشغالات شخصيات ركاب حافلات (الافيكوات) اليومية التي يستعملها في مواصلاته المعتادة للوصول لمقر عمله، مبثوثة في ثناياها مشاعر إنسانية وروح وطنية تتفاوت نبضاتها بين التعاطف والنقد والابتهاج والألم والتحسر، ويتداخل فيها الانشغال الخاص مع الاهتمام بالشأن العام واستعراض بعض قضايا الساعة على الصعيد الوطني.
ومنذ ذاك الإصدار نلاحظ أن هذا الجنس السردي الأدبي الشخصي قد بدأ يلقى الاهتمام من أصحاب الأقلام الذين يؤمنون بأهمية هذه السرديات وما تمثله من توثيق للوقائع والأحداث بجميع أنواعها وظروفها وإضافتها للمشهد التاريخي والثقافي الوطني بما تحمله من فوائد ومنافع للكاتب السارد والمجتمع على حد سواء.
ومؤخراً أنهيتُ مطالعة مخطوط يوميات لم تنشر بعد، بعنوان (يومياتُ وطنٍ ومواطن) للكاتب عمر عياد الوحش الذي سبق وأن وثق يومياته حول حرب تشاد في كتابه الأول (القبرُ المتحرك عن حرب تشاد) الصادر سنة 2021م ضمن منشورات وزارة الثقافة. وفي مخطوطه (يوميات وطن ومواطن) التي يمكن أن نطلق عليها من (الإثنين إلى الإثنين) لأنه تبدأ سردياتها منذ صباح يوم الإثنين الموافق 1 يناير 2018م وحتى يوم الإثنين الموافق 31 ديسمبر 2018م، مما يجعل الوعاء الزمني عاماً كاملاً جاء في 480 صفحة من الحجم الكبير (A4).
وحول هذه اليوميات الشخصية والوطنية يؤكد كاتبها عمر الوحش بأنها ليست مذكرات أو سيرة ذاتية بل يوميات يقول عنها (هي يوميات مواطن عادي بسيط يعيش في قلب العاصفة يقف في جميع الطوابير، وتجده في كل الزحامات، مواطن متقاعد لا منصب له، ولا واسطة لا يدري أحباه الله أم أبتلاه بحب الكتابة، والتوثيق، فكتب على الورق أخباره هو وبعضاً من أخبار إخوته، وأقاربه، وجيرانه، وأصدقائه، وقريته، وفزانه، وأخبار سفرياته، ونجاحاته، واخفاقاته، وانتصاراته، وأخبار أفراحه ومآتمه، وأخبار حتى المواقف المحرجة، والهزائب التي تعرض لها، وقد يرى البعض أنها خاصة، وأنها تافهة وتهم صاحبها فقط، والبعض يراها أنها لغبي، أو لنرجسي يحب نفسه ويروي بطولاته والمشكلة أنه لم يكتفي بكتابتها، والاحتفاظ بها لنفسه فقط ؛ بل قرر أن ينشر غسيله للناس.
ويضيف إلى ذلك إجاباته حول السؤال الذي فجرته أعماقه (لماذا؟ هكذا سألت نفسي، وهكذا تخيلتكم تسألونني، لماذا يا هذا؟ لماذا تنشر يومياتك لنا؟ ما حاجتنا بها، فأجبت نفسي، وأجيبكم بصوتاً هادئ، أنشرها لكم: لأنني رجلٌ ينتمي إلى مدرسة ترى أنَّ التاريخ ليس فقط سجلُ الأحداثِ الكبرى، وسير الملوك والقادة، وأخبار المعارك، والعظماء، والعلماء، والأدباء، والشعراء؛ بل هو أيضا التاريخ الاجتماعي للبسطاء، وهو التفاصيل اليومية البسيطة التي تتعلق بحال الناس وأحوالهم، ومن هنا فهذه يومياتكم أنتم أيضا، فقط كتبت بقلمي، إِنها يوميات المواطنين العاديين الكادحين الذين قابلتهم، وسمعت منهم في الطوابير، وفي الأسواق الشعبية، وفي المستشفيات، والمصارف، والمخابز، والطرق، والأماكن العامة، وخوفاً من أن تذهب مع الريح أخذت على عاتقي تدوين ما أمكنني مما أراه، وما أسمعه من شكوى، وضيق وتبرم، وتعليقات تدويناً حرفياً، إلاَّ ما تقتضيه ضرورات الصياغة الأدبية، وتحويله من العامية للفصحى، وأخلص إلى تجديد القول إِنها ليست يوميات مواطن فقط، بل يوميات وطن، ومن هنا جاء العنوان: يوميات وطن ومواطن.) ويوضح ذلك بأن كتابه (يرصد، ويوثق الحياة اليومية من زاوية الكاتب، ويمارس التصوير الفوتوغرافي بالقلم، والكتاب محاولة فردية لتعرية الفساد ومكافحته عملاً بحديث رسولنا القائل [مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ].
وإِنه كتابُ كاتبٍ عجز عن كتابة رواية يصور فيها حجم كارثة الوطن على أَلسنة أَبطال، وشخصيات من الخيال، لهذا فضل أَن يخوض المعركة بشخصيته المباشرة سافرة دون قناع، لا يتمترس خلف أًسماء وهمية يجعل منها دروع بشرية، وفضّل أن تكون رواية أَبطالها أُناس واقعيون.
رواية وجدت في الواقع المعاش الكثير من عناصرها، فهل من دراما أَكثر مما يحدث في ليبيا من حرب بين الإِخوة، ومن قتل، ونهب، ورعب، وهل من كوميديا مبكية مضحكة أَكثر من رجالٍ ينامون أمام المصارف، ومستودعات الغاز، ومحلات السلع المدعومة، ومحطات الوقود، وغيرها، رجال ونساء يتسابقون مندُ الفجر للانتظام في الطوابير خاصة أمام المصارف، متحملين تهزيب، وتهزيل أفراد ميلشيات، أغلبهم جهلةً ولصوص ارتدوا ملابس الجيش والشرطة، وبها، وبدونها صاروا يحكموا، ويسرقوا جهاراً نهاراً بالقانون في ظل انهيار الدولة.)
ويتبين من خلال المقدمة الطويلة أن الكاتب قد خاض جدالاً طويلاً مع ذاته حول العنوان الذي وضعه ليومياته، متأثراً بأصوله الجنوبية الفزانية وارتباطه الحياتي والعملي اليومي بالعاصمة طرابلس، ويوضح ذلك كالتالي (سيجد القاري في هذه ليس يومياتي عندما أسافر لفزان فقط؛ بل اهتمام خاص بأَخبارها وأنا في طرابلس، ويأتي ذلك كوني من أَصلائها، ونبتُ في تربتها، ورضعت من ضرعها وغًذيت من زادها، وشربت من ماءها، ودرجت على ترابها طفلا، وصبياً والمسافر الحكيم هو الذي لا ينسى وطنه، فأَنا نعم أَعيش بطرابلس، لكن قلبي على فزان يقطر دماً لما يجري فيها من حرابة، وقتل، وسرقة، واحتكار، واستغلال، وقبليّة وعنصرية، وتهجير، ومذلة، واستضعاف، وإقصاء، وتهميش، فإذا كانت العاصفة قد عمت كل ليبيا فإن آثارها في فزان أَوجع، وأكبر، وأقسى، وأبلغ، وأَعمق، ومن أَقل واجباتنا كأبناء لفزان أن نرصد معاناة الفزازنة، ونحييّ صمودهم، فأَكثرهم، ورغم كل ما يجري لا يزالون صامدين في مدنهم وقراهم، ويرددون مع الطير وكري وكري ولكثرة تكرار ذكر فزان في هذه اليوميات، فقد كان من العناوين المقترحة لهذا الكتاب هو “يوميات فزاني في طرابلس”.).
وحين يتناول عمر الوحش الجوانب السياسية في يومياته فهو يفكك ويشرح الحالة الليبية بجرأة قوية تصل إلى جلد ذاته الشخصية والذوات الليبية عامةً خاصة عند عقده المقارنة بين ليبيا ودولة الإمارات العربية فيقول (مشكلة ليبيا لم تكن في نظامها السياسي فقط؛ بل في شعبها السلبي المتخلف، القبلي، الجهوي، ولما يكون المجتمع سلبياً هكذا، وقبلياً هكذا، وجهوياً وإقليمياً، ومتخلفاً هكذا، يكون قانون الصدفة إذا كان للصدفة قانون، هو العامل الذي قد يبني أَوطاناً، ويدمر أخرى، ونقصد بقانون الصدفة أَن يتولى الحكم شخصٌ متنورٌ حكيمٌ قويٌّ أمينٌ ذو نظرة تحديثية طليعية تقدمية، يستخدم الحكمة، يستخدم المال، يستخدم العنف والقوة والإجبار، فليستخدم من الأساليب ما يشاء، المهم أن يمضي بنا قدماً، وينتشلنا من براثن الجهل والتخلف. لكن خذلنا الحظ، وخذلنا قانون الصدفة، ومنحنا “معمر المدمر” الذي عاد بنا عقوداً للوراء، وأسعف الحظ إِخوتنا في دولة الإمارات، فمنحهم “الشيخ زايد”، فهي دولة تشبهنا في كثير: فشعبها بدوي قبلي مثلنا، وصحراوية مثلنا، ونفطية مثلنا، وأكثر منا إقليمية إذ تتكون من سبعة إِمارات وليس ثلاثة، وزمن تولي القيادة لكليهما متقارب، لكن الفرق في الإرادة، والصدق، والتواضع، فذلك بنى دولة من العدم، وهذا دمر دولة قائمة كانت تتلمس طريقها نحو المؤسسية، وتهتم بالتعليم، ولها شرطة، وجيش منضبط، وستمر معكم دولة الامارات كثيراً في هذه اليوميات لأنني اتخذتها مثلاً، وللمقارنة، وذلك للتشابه الكبير في الانطلاقات، والتفاوت الكبير في النتائج والخلاصات.)
ولا يغرق الكاتب في الظلامية وهيمنة روح التشاؤم على أفكاره وأحلامه بل يترك الباب مفتوحاً لبعض الأمل في مستقبل ليبيا وغدها الآتي فيقول (اُوه، لقد أخذنا التشاؤم بعيداً، فلنتفاءل، ونفتح نوافذ للأمل، فإِنه مما يطمئننا أن البدايات في الثورات العظيمة غالباً تكون صعبة، وعنيفة، ومتعثرة، وتكون نهاياتها جيدة ففي فرنسا مثلاً بدأت الثورة فيها عنيفة، وفوضوية، ودموية، وانتجت في النهاية دولة ديمقراطية متقدمة، والحرب الأهلية الأمريكية منعت تقسيمها إلى شمال وجنوب، وانتجت دولة عظمى، أما حكم الفرد فعلى العكس تكون بداياته جيدة، وعسل، وسكر، ولوز، وزهور، وورود، وتمام سيدي، وتكون نهاياته سيئة، فلا حصاد إلاَّ العوسج، والكرفة، والحنظل، والدم والدموع، فقد شهدنا البدايات الجيدة لهتلر في ألمانيا، وموسليني في إيطاليا، والقذافي في ليبيا، وجميعهم صاروا إلى سوء المنقلب، وإلى الدكتاتورية والاستبداد.). ويواصل في نهاية مقدمته (نعم لا تخافوا هناك صادقون وطنون مخلصون، هناك ايجابيات تُصنع، وتنمو وسط هذا الغبار المثار، ووسط الدخان الكثيف الذي تثيره الحروب والنزاعات).
تتجول بنا (يوميات وطن ومواطن) لكاتبها عمر عياد الوحش في دروب الحياة اليومية الليبية بكل ما فيها من سلبيات ومعاناة للمواطن وضرر وفساد يطال الوطن، وتعري صفحاتها العقلية الليبية مع بعض النقود اللاذعة. ويبدو أن التنشأة العسكرية لدى الكاتب قد جعلت كتاباته تتسم بالحرص على التدوين اليومي للأحداث العامة والخاصة متجاوزاً قواعد اللغة ونجاعة الأسلوب السردي، وفي كل الأحوال تفتح (يوميات وطن ومواطن) صدرها للتحاور معها وتقبل كل النقود والآراء والتصويبات التي تستحقها، مع وافر الامتنان لهذا الكاتب المثابر الذي حرص أن يوثق طوابيرنا وصراعاتنا وفسادنا بدقة تفاصيله ويترك لنا فسحة أمل وبقعة ضوء نتشبت بها لغد ننتظره بشوق عارم.
4 مايو 2024م