البلدان التي تعيش الحروب والنزاعات، لها وجه خفي قد لا يدركه إلا من يعيش داخل أحداثها المتقلبة على أرضها، حيث لا تختفي وجوه الحياة رغم تدهورها وغياب بعض مظاهر الحياة وسط رحى الحروب وغبار الموت والدمار. هذه الحياة التي تبقى ملتصقة بالأرض وبالناس يسردها المبدع من خلال صورة سينمائية، أو أدبيا من خلال الشعر أو القصص القصيرة أو الرواية مثلا. وتمتلك الرواية قدرة كبيرة على سرد تفاصيل الواقع الذي تنشأ فيه، لذا يمكنها العيش في أقسى الظروف حتى وسط رحى الحرب نفسها. “العرب” استطلعت آراء كتاب ليبيين أصدروا رواياتهم وسط النزاع الذي يمزق البلد، حول أعمالهم.
في ليبيا كل شيء يسير بشكل مألوف لحياة طبيعية في بلد هادئ، يمكن أن تكون هناك أمسية شعرية في مكان مّا، وفي جانب آخر من المدينة نفسها تتعالى أصوات التفجيرات. وكأن الحياة تخبرنا بأن لكل شيء تعيس وقبيح مقابلا مبهجا. هنا نعرض لروايات ليبية صدرت عام 2016، لروائيين ليبيين، أغلبها لم يصل إلى القارئ الليبي خاصة، وما وصل منها يكون عن طريق الأصدقاء.
من المفترض أن يكون المحور الرئيسي لهذه الروايات الصراع الحالي، ولكن نكتشف أن هناك شخصيات وأحداثا تحدث في عوالم روائية أخرى، وكأن هذه الروايات ترفض تدوين الخراب أو ربما الوقت لم يحن بعد للكتابة.
حكاية متوارية
الناقدة فاطمة الحاجي تنشر اليوم روايتها الأولى “صراخ الطابق السفلي”، عن دار النهضة اللبنانية، تتحدث فيها عن فترة مهمة من تاريخ ليبيا الحديث، فترة ثمانينات القرن الماضي التي شهدت اضطرابات وتحولات على كافة الأصعدة؛ تجربة الليبيين مع حرب تشاد ومعاناتهم من الحصار الغربي الاقتصادي والجوي.
تقول الحاجي “الرواية نتاج تجربتي في عصر قد شاهدته وعايشت بعض أحداثه، وقد بدأت كتابتها منذ أكثر من عشر سنوات، وضاعت مني عندما سرقوا بيتي عام 2011، وأعمل على ترجمة الرواية إلى لغات أخرى لأني أرى أنها رواية تتحدث عن زمن مهم، وأغلب الناس لا يعرفون عن تفاصيله الكثير. لم أشعر بالخوف من نقدي للكاتبة داخلي عندما كتبت روايتي. كنت فقط في سباق مع الزمن، فمعضلتي الوحيدة كانت خشيتي ألا يمنحني المرض فرصة رؤية الرواية بين يدي القراء. ليس غرورا أن أقول إنها رواية جديرة بأن تُكتَب وتُقرَأ”.
تبدأ فاطمة الحاجي روايتها “صراخ الطابق السفلي”، برسالة إلى الناشر جاء فيها “أنا سعاد صوت من أصوات الرواية، قبل أن أرحل أردت أن أسرد شهادتي على ما عايشته، وأزيح الستار عن أسرار لم تكشف لأحد من قبل، أسرار تعود إلى فترة مجهولة من تاريخ ليبيا المتواري في ركن خفي من الوجود”.
“أسلوب جدي”، للروائي شكري الميدي أجي، محاولة لتجميع أو استعادة ذكريات صبي مر بأحداث متداخلة خلال عامه الرابع عشر، إثر عاصفة رملية اجتاحتْ بلدته. خلال تلك العاصفة كان قد بدأ ربط خيوط قصص مختلفة سمعها مطولاً عن والده وجده. كان صبيا مولعاً بقراءة قصص الحروب العالمية المصورة. من خلال حكايات جده عن فترة شبابه ومراهقته، يبدأ بمقارنة كل ذلك بالحياة التي كان يعيشها والده، كما يشرع في اكتشاف بهجة الرغبات ضمن تفاصيل الحياة من حوله، ليجد أمامه دوماً أسلوبين في العيش، أحدهما لأبيه والآخر لجده، يحاول أن يكتشف أيهما هو الأنسب بالنسبة إليه.
والده الصارم لديه رؤية خاصة تجاه الحياة، فهو يعتبر تاريخ الجد غير موثوق فيه، وأنه مليء بالأساطير والقصص الخيالية تناقض الأحداث الواقعية، في حين يعتبر الجد أن قصص الأب تتجاهل إمكانية حدوث الصدف، ولذلك تُعتبر مفرطة في الجدية. يصبح عقل الصبي بمثابة ساحة معركة لقصص الإثنين تنعكس على تصرفاته، يتصرف مثل جده خلال أحد المواقف -أو كما تهيأ له- إذ يقدم على تصرف سيء تجاه -ما اعتبره فيما بعد- حبه الأول، ليشرع في تأنيب ذاته، معتبراً نفسه شخصاً بلا أخلاقيات، وهذه النظرة تماثل نظرة الأب تجاه تاريخ الجد.
ويضيف الروائي شكري الميدي أجي قائلا “الرواية تروي بعض تصرفات -ذكريات- أقدم عليها الصبي خلال تلك السنة البعيدة داخل بلدته التي شهدتْ كثيراً من الأحداث السياسية التي أعقبت صراعا قبليا، يكتشف خلالها الصبي المزيد من الأمور الجديدة عليه التي اعتبرها أسرارا تخص الكبار وحدهم”.
طرافة وأسطورة
تقول الروائية عائشة إبراهيم صاحبة رواية “قصيل”، إن قراء الأدب موجودون في كل الأوقات وكل الظروف، فالأدب هو ميكانيزم الدفاع الذي ابتكره الإنسان للتغلب على الأزمات، وإلا ما كان هناك شعر الملاحم وأغاني المقاومة التي ابتكرتها شعوب الأرض على مر الأزمنة.
وتضيف “رواية ‘قصيل’ هي نص يتخذ من موطن نشأة الكاتبة مسرحاً لأحداثه، ويسلط الضوء على بعض أنماط التفكير الجماعي، ويوثق في ومضات خاطفة بعض سيرة المكان عبر أزمنة متعاقبة، من العصر الروماني مروراً بالحكم العثماني والاحتلال الإيطالي، ثم ملامح الدولة الليبية ما بين عقدي الستينات والثمانينات من القرن الماضي وما يتخللها من تغير اجتماعي واقتصادي، ناسجة حولها حكايات تجمع بين الموروث والطرافة والأسطورة، وضمنتها خصوصية البيئة وتقاليدها وأنماطها الاقتصادية والاجتماعية والمؤثرات السياسية التي تفاعلت معها وفيها”.
وتتابع إبراهيم قائلة “الرواية صدرت عن دار ميم الجزائرية، وللأسف بسبب الرسوم الجمركية الباهظة على الكتب إضافة إلى ارتفاع سعر صرف الدولار، لم يتمكن اتحاد الناشرين الليبيين الذي يترأسه الأستاذ علي عوين، من طرح الرواية للقراء في ليبيا”.
الروائي أحمد الفيتوري في روايته “ألف داحس وليلة غبراء”، يقدم ثلاث سرديات روائية؛ الأولى بعنوان “غابة الأشجار الميتة”، والثانية بعنوان “غابة القضبان الحية”، والثالثة “غابة الرؤوس المقطوعة”. يقول الفيتوري في حوار سابق لـ”العرب” “لم أكتب رواية تاريخية، بل كتبت رواية حيوات فاعلة وطازجة وحية، وسردياتها تشي بذلك خاصة في مرحلة إنسانية مليئة بالتحولات الجذرية، مرحلة الحداثة والتحديث”.
ويضيف الكاتب “لقد كنت أثناء الكتابة غاطسا في يمّ الذاكرة، فالكتابة في عمومها فن الاستعادة، وحين كنت الغريق كان الحال يجعلني أطفو وتلاطمني أمواج الحال، ما بين حال الكتابة وبين حال ما هو خارج الكتابة، كنت بين داحس وغبراء وبين ألف ليلة وليلة، وما يحدث من أهوال في يومي ويوم بلادي وبلاد داعش والعالم شبيه بما ظننت أني تخيلته أو أنه كابوس يقظة.
لحظة الكتابة بدا أن ما تخيلت أني تخيلته كنت عشته وما عشته كنت أراه مرأى العين حاصلا، حتى ظننت أن الأمور تختلط عليّ، لكن الواقع كان أكثر مما أتخيل بشاعة، والرعب بجناحين وبأرواح سبع. تساءلت حينها ما الفرق بين صرخة الميلاد وصرخة الموت، وأثناء الكتابة تبينت أن الحياة أقوى من الموت لأنها أمه وزوجه فكنت أكتب وأكتب لأحيا… ولهذا القارئ كتبت: ألف داحس وليلة غبراء”.
________________
نشر بصحيفة العرب