قصة

الانكسار

إلى / عبدالله القويري “عندما تضج الأعماق”
الذكرى الـ33 لرحيل الكاتب والمفكر الليبي عبدالله القويري

الكاتب والمفكر عبدالله القويري
الكاتب والمفكر عبدالله القويري

غمرها الظل على غير توقع.

تأملت القدمين اللتين انتصبتا أمامها. رفعت رأسها. استوعبت للحظات، القامة الثابتة لرجل طويل ضخم. منتصبا الى جوارها تماما. صامتا. لكن طريقة نظره اليها، أشعرتها بأنه يريد أن يتحدث معها. ابتسمت. بدت أسنانها ناصعة البياض، دقيقة، مصفوفة بعناية. ران الصمت. لابد أنها تشكره في خاطرها، لأنه غمرها بالظل، وصار في وسعها النظر الى أعلى، من دون أن تلسع أشعة الشمس الحارقة عينيها. ابتسم لها في ود وتودد. فرك أصابعه وكأنه سيشرع في الحديث. أرادت أن تسبقه، بإشراكه فيما تصنع. حملت لعبتها المصنوعة من الطين. دعته بنظراتها الى تأملها. طفلة طينية صغيرة. جميلة، لها عينين واسعتين وفم مكور وأنف من عود ثقاب مقسوم الى نصفين. ابتسم. لمع بريق خاطف، غمر فراغ موحش في الأعماق السحيقة. انحنى الى الأمام، متأملا التشكيل الطيني اللين بين يديها.

– إنها جميلة حقا.

– إنها لعبتي.

  إنها لعبتي الوحيدة.

  إنها أجمل لعبة في العالم. لقد صنعتها بنفسي.

– إنها لعبة جميلة حقا. انها طفلة حقيقية. لابد أنها صديقتك. لعلك كنت تتحدثين معها. اليس كذلك ؟

– نعم.. نعم كنت اتحدث معها.

– ماذا قلت لها، وماذا قالت لك ؟

– كانت تحدثني عن العيد والحلوى.

– هذا جميل، ولكن، هل لديك العاب أخرى ؟

– لا.. انها لعبتي الوحيدة.

– نعم، هي لعبتك الوحيدة المفضلة، لكن لابد أن لك ألعابا أخرى.. قد تكوني مللت منها، وتحتفظين بها في البيت. أو تخبئينها في حجرتك، حتى لا يسرقها منك الأطفال.

نظرت اليه بتمعن، وقالت بإصرار:

– إنها لعبتي الوحيدة.

ابتسم في ود. راقت له فكرة أن يواصل معها الحديث.

– لابد أنك خائفة مني.. تعتقدين أنني سوف أسرق ألعابك.. لذلك لا تريدين أن تتحدثي عنها.

قالت دون أن تنظر اليه :

– إنها لعبتي الوحيدة.

أستغرب لإصرارها. فكر فيما يجب أن يقوله. تأمل الأطفال الآخرين، اللذين يلعبون في الساحة الترابية، الشاحبة، المحشورة وسط مربع العمارات المتهالكة.

.. أطفال يتشاجرون.

أطفال يشكلون حلقات دائرية منبعجة. ترتفع أصواتهم بالإنشاد المتناغم والمتنافر.

أطفال يتسلقون هيكل عربة قديمة مفككة الأطراف، اعتراها الصدأ والتآكل.

أطفال يتكئون على الجدار ، الذى ينحدر منه ظل ، يغمر جزء من الساحة.

أطفال يتقافزون بمرح. حول بقعة ماء متسربة من أحد الأنابيب الملتصقة بجدار إحدى العمارات.

أطفال يتجمعون على حافة الأرصفة الداخلية في مداخل العمارات.

أطفال يحملقون في الفراغ.

تمنى لو كان لديه أطفال. سوف لن يتركهم يتشاجرون / يتسلقون العربة / يتكئون على الجدار / يبتلون بماء الأنابيب / يبحلقون في الفراغ على حافة الأرصفة / يصنعون الدمى بالطين المتسخ.

تنهد برضى، وتأمل الطفلـة وهي مستغرقة في تشكيل لعبتـها. تمنى لو كانت طفلتـه. انحنى نحوها بهدوء، لازالت كتلة الطين بين يديهـا. لكن ملامحها الرخوة بدأت في الاختفاء. حاول، مترددا، وضع يده على رأس الدمية الطينية. لكنها سحبتها، ونهرته بنظراتها المستنكرة. تقرفص أمامها تماما. فيما اشتبكت أصابعه تعبيرا عن رغبته في مواصلة الحديث. حدقت فيه مليا، وكأنها تريد أن تقول له شيئا.

بادرها متسائلا :

– هل حقا ليس لديك ألعاب ؟

نظرت اليه.

لاحظ الضيق في نظراتها. بدت له مضطربة وهي تتململ في جلستها. التفاتات رأسها تزداد، فيما انزاحت ضفائرها بإهمال. أصابعـها تضغط برفق على التشكيل الطيني الذي بدء يذوب ويتسرب من بين أصابعها.

– أنا أعرفك، سوف تلعبين بدميتك البلاستيكية، عندما تعودين الى البيت.

– ..

– سوف تقومين بتركيب ذلك البيت الجميل المكون من قطع المربعات الملونة.

– ..

– سوف تنشرين الحيوانات الصغيرة على الفراش. لا شك أنه لديك علبة كاملة من

  الحيوانات البلاستيكية الصغيرة الصلبة.

– ..

– ولكن هل تفعلين ذلك بعد أن تتابعي حلقات الرسوم المتحركة على شاشة

  التلفزيون، أم قبلها.

– ..

– أنك بالتأكيد تتفادين موعد الرسوم المتحركة. اذ لابد أنك تتابعين مسلسلا بعينه،  

  وتفضلينه على غيره، مع أنه يبدو لي أنك تشاهدين كافة ما يعرض من حلقات.

-..

– قد تكوني، بالتأكيد، مللت مشاهدة أشرطة الفيديو الخاصة بذلك، لأنك    شاهدتها كثيرا، وحفظت كل أحداثها، وتعرفين أسماء كل أبطالها.

– ..

– .. أليس كذلك ؟

نظرت اليه، بصمت واستسلام.

– اذا كان كذلك، فأنت بالتأكيد تفضلين الذهاب الى حديقة الحيوان، أيام العطلات، حيث تشاهدين الحيوانات الحية الحقيقية، وليس كتلك البلاستيكية الباردة، أو المعروضة على شاشة التلفزيون.

– ..

– أنا أعرف أيضا، أنك فضلت الجلوس هنا اليوم، واللعب بالطين، لأنك سأمت الألعاب الموجودة بحديقة حيّكم، ولم تعودي راغبة في امتطاء الحصان الخشبي، أو دفع العجلة الدوارة، والجلوس على حافتها، وهي تدور.

– ..

– لم تعد المراجيح تثيرك، أليس كذلك ؟

– ..

– كم عددها يا ترى.

– ..

– ألا تعرفين عددها.

– ..

– انها كثيرة بدون شك. حتى أن الأطفال لا يتشاجرون عند ركوبها.

نظرت اليه بألم.

نظرت اليه باستعطاف.

وعندما لم يسمع جوابا منها، نظر حوله محاولا التقاط فكرة ما تدفعها الى الحديث.

*   *   *

كانت الشمس قد توارت عن الساحة الشاحبة. وبعض أشعتها تتلصص من بين زوايا العمارات المتهالكة، التي اتشح معظمها بالضلال، وران عليها الصمت الموحش. وانسكب الهدوء المريب. حيث انسحب معظم الأطفال، وتلاشت حلقات اللعب الدائرية، وبدا هيكل العربة القديمة مهجورا، وتضائل عدد الأطفال المتكئين على الجدار، فيما شرع بعضهم في التثاؤب.

نظر الى الطفلة. لاحظ انفعالها وتوترها وضيقها الشديد. اندهش لأن الدمية الطينية ساحت بين يديها تماما. ولفت نظره، أن قبضتها تهتز بانفعال وعصبية شديدة. وكأنها تريد أن تسحق بقايا الدمية. فيما السائل المائي يتراقص في عينيها، وينساب بإهمال واضح على وجنتيها. وعندما تدارك نفسه، حاول انقاذ الموقف بأن أطلق ابتسامة، حملها الكثير من الود والرغبة في الاعتذار. تأملته الطفلة لبرهة. ونثرت بقايا الطين العالق بأصابعها. وانتصبت واقفة في لحظة مفاجئة، لم يقّدرها. وكأنها تريد الانسحاب. مد يديه، مستسلما، لكي يودعها ويعفي نفسه من الاحراج الذى غمره بقوة وازعاج. وعندما رفع نظره الى وجهها، لاحظ انها تحاول الابتسام، وتحاول أن تقول شيئا. لكن أمر ما يمنعها من ذلك . ولم يكن في وضع يسمح له بمعرفة ذلك الشيء.

وعندما حاول أن يجد مبررا أو تعويضا لما أحس أنه تسبب فيه. انتابه الفشل، ولم يتمكن، وشعر بوخز حاد، بدلا من ذلك، جعله يدعك عينيه بشدة وانفعال. وعندما فتح عينيه، لاحظ أن أشعة الشمس قد تسربت، في غفلة، إلى داخل الحجرة، وغمرت أركانها بالضياء. وعندما مال بجسمه إلى الجانب الآخر من السرير، وجد أن زوجته تنظر إلى الدمية، فنظر اليها هو الآخر. وعندما التقت نظراتهما لبرهة، انكسرتا بهدوء وصمت، وتلاشت على سقف الحجرة الباهت، حيث تمددا على ظهريهما، تفاديا للحديث.

*   *   *

كانت الدمية قد انزلقت من على الوسادة ، ونامت على ظهرها باستقامة، استجابة لحركة السرير، وانكسرت نظراتها، هي الأخرى، وأغمضت عينيها في حركة آلية، وفقا لطريقة صنعها وتصميمها.

( 2001 )


من المجموعة القصصية (الصبي / الوردة) الصادرة عن مجلس الثقافة العام 2008م

مقالات ذات علاقة

أربعطاش ونص[1]

رحاب شنيب

ظـل اللـيل

إبتسام عبدالمولى

العجوزان

محمد المسلاتي

اترك تعليق