قصة

الشيء.. الذي حدث

لم يلق بالاً إلى غياب منفضة السجائر عن مكانها، في السابق كان يلومها على ذلك، انشغل بتفحص مجلة فيما كانت تجلو الصحون في المطبخ، وكان بوسعها أن تتكهن بما يفعله في هذه اللحظة، يجلس كعادته بعد كل عشاء على الكرسي، يدخن ويقرأ وبجانبه منضدة زجاجية صغيرة فوقها منفضة السجائر، وحين تستغرقه القراءة ينسى موقع المنفضة مما يجعل رماد السجائر يقع على السجادة، حيث يترك أثراً لا يزول بسهولة، كانت تلومه على إهماله، وكان يبتسم لها كطفل أساء التصرف.

بدت له، أثناء القراءة، أن المشكلة كلها في غاية السخف، ودّ – في أعماقه- أن تنتهي هذه الليلة الثقيلة على أي نحو كان.. بدت لها عاداته المنزعجة أمراً يمكن التآلف معه ولا تستحق أن تثور من اجلها، الغريب أن هذا الخاطر عنَّ لها الآن فقط بعد أن اتفقا على إنهاء ما بينهما مع مطلع شمس الصباح.

في البداية كانا يؤمنان بأن الحب وحده يكفي لإزالة كل العثرات، والآن صارا يعتقدان بأن الحياة ما هي إلا أشياء تتراكم مع الزمن.

أدار جهاز التسجيل، فانبعث صوت (فيروز)، انتبه للمرة الأولى في حياته إلى مسحة الحزن في صوتها، وكأنه رجع بعيد شيء مفصول عن الموسيقى والكلمات، كانت هذه الأغنية بالذات المضلة لديها، فرفع صوت المسجل قليلاً لتتمكن – وهي في المطبخ – من سماع أغنيتها المفضلة، تخيلها الآن تجلو الصحون مرتدية قفازاً مطاطياً رقيقاُ.

كان كلاهما – هو في الصالة وهي في المطبخ – يستمع إلى الأغنية، وفي نفس الوقت يرهف السمع نحو الآخر ولا يستطيعان تخيل ما حدث وما سيحدث، تمنيا في أعماقهما أن يبادر الآخر بالمصالحة ونسيان الأمر بَّرمته…

طرق خاطره أنها السبب فيما حدث، فهي قد أذنبت كثيراً في حقه، ولطالما سامحها على عثراتها، إلا أنه لم يعد يحتمل منغصاتها اليومية…

أتت إلى الصالة حاملة الشاي، تناول فنجانه، وظلا يحتسيان الشاي في صمت، تشاغل بتصفح المجلة، وتشاغلت بالعبث في سلسلة تطوق عنقها، إلا أنها أبعدت يدها فجأة حين تذكرت أنه أهداها لها في أول عيد زواج لهما، كانت تنظر إليه خلسة فيما هو مستغرق بالقراءة، بدا لها أنها تشرب الشاي مع رجل غريب.

أرجعته صورة في المجلة إلى عدة سنوات مضت، حين تعرف إليها لأول مرة، وتكررت لقاءاتهما في مقهى يطل على البحر، لم ينتبه حين غيرت الشريط.

قبل أن تعود إلى مقعدها هزّتها ذكرى مرضها ذات ليلة، تذكرت كم عانى حين أسرع بنقلها إلى المستشفى حيث أجهظت في تلك الليلة المطيرة، كان بوسعها حين حُملت على نقالة أن تسترجع صورته وهو يستدير ليخفي خوفه، فما الذي بدّله؟

نهض، أطفأ السيجارة في منفضة بالمطبخ، في طريق عودته إلى الصالة خاطب نفسه:

لم تستطع أن تفهمني أبداً، ألا تدرك ما يعانيه؟ ألا تقدر عشرات الضغوط اليومية التي يتعرض لها في العمل والشارع وسوق الخضراوات والجيران والالتزامات الاجتماعية والسعي الدائم لتأمين المستقبل لأسرته؟ هذه المتاهة التي تشبه لعبة صينية لها بداية ولكنها لا تنتهي أبداً.

حاولت من جانبها أن تشرك أصدقاءهم المشتركين لحل إشكالياتهم، إلا أنها اكتشفت إنهم يعقدون المشكلة عوضاً عن حلها فأقلعت عن ذلك، إنها لا تكرهه ولكنها تشعر بأن أحلامها لم يتحقق منها شيء.

نهض وجلب وسادة من الغرفة ونام في الصالة، دخلت هي إلى غرفة النوم، ناما وكلاهما مصمم على أن يذهب كل منهما، في الصباح، إلى حال سبيله.

وفي الصباح تأخرا في الاستيقاظ، وحين نهضا أخيراً التقيا في وسط الردهة مُسهدِين، كل منهما يحمل منشفته، نظر كلاهما إلى الآخر، وشعرا أن ليلتهما الماضية كانت قاسية، وأن ما تصورا حدوثه في الصباح كان أقسى مما يستطيعان احتماله.

بنغازي

مقالات ذات علاقة

مناشير الموت…

حسين بن قرين درمشاكي

المحجوب

عزة المقهور

سيـرة الجـد الهـارب

إبراهيم بيوض

اترك تعليق