شخصيات

عبد الله القويري.. سيرة الباحث عن الوطن

يعاد نشر الموضوع بمناسبة الذكرى الـ31 لرحيل الكاتب والمفكر عبدالله القويري.

الكاتب والمفكر عبدالله القويري
الكاتب والمفكر عبدالله القويري

يقدم عبد الله القويري الكاتب والمفكر الليبي في سيرته الذاتية (الوقدات) خلاصة عصية للمعني، للبحث عن معنى، للبحث عن هوية حيث تكون الهوية مرتبطة ارتباطا وثيقا بعملية انتاج معنى، ويقدم خلاصة لاغتراب له علاقة بالعجز أو بفقدان المعنى ويقول في رحلة الاقتراب / الاغتراب التي تجاوزت النصف قرن من العمل الإبداعي يقول في الوقدات : (سأعود… ليس هناك ما يدعو للانتظار. لم تكن اندفاعة، بل تصميم انتظر وقته، وكنت أظن إنني هناك أستطيع أن أقدم لوطني كثيرا، وكان المجال الذي اخترته وهو الكتابة فعالا. كان للكلمة معنى، فلم تكن تخرج إلا وبها شيء من روح صاحبها.

فما كان أشد استحقاقي للعطف إذ أنني كنت مخدوعا، فالكلمة كالشجرة تريد ترابها وجوها. إذ هي ليست غماما أو هياما، بل هي عروق ودم وعناء، وبدون ذلك فليس لما يسود الصفحات من معنى).

إرادة المعنى

وبذا كانت الكلمة عنده هي إرادة المعنى باعتبارها أقوى دافع في حياة الانسان ومن خلال هذا قام بدراسة هامة هي (معنى الكيان – محاولة لفهم الواقع الليبي) حيث انها بحث في شكل الكيان وتصور نظري وتحليل لهذا المشكل الذي صار اسمه على الخارطة منذ بداية القرن العشرين: ليبيا، في جرأة وتعمق العالم الباحث والأديب الفنان الشفاف، أما سيرته الذاتية (الوقدات) فهي التجسيد الدرامي لهذا المشكل، فالسيرة تجسيد لمشكل الهوية، الهوية المفهوم الاجتماعي النفسي الذي يشير إلى كيفية إدراك الشعب ما لذاته وكيفية تمايزه عن الآخرين.

ان (الوقدات) تجسد جدل العلاقة بين الكيان الوطني ومفهوم الأمة وتجسد هذا الاشكال، فهي معاناة المهجر كاغتراب، الاغتراب الذي يشف عن نفسانية البدوي الذي لا مستقر له. و(الوقدات) كتاب مقارنة: «ما بين الطمى والصخور، وما أبعد خضرة الطين عن خضرة الصخور. هناك كانوا يسيرون والعادة تأخذهم وانبساط الوادي يجعل تلك النفوس مبسوطة، فلا معاناة ولا غضون للجباه الا غضون السنين، أما هنا، فالعناء هو الحياة، وغضون الجباه هي غضون معاركة العالم والوقوع في طريق صراعه».

الوطن مجردا

يبدو لأي مطلع أو باحث أن الوطن هو الشغل والمشكل عند عبد الله القويري المفكر الذي اشتغل على هذا المشكل بكل الوسائل الفكرية والأساليب الفنية، غير أن هذا الاعتناء في حده الأقصى انصب على المفهوم، مفهوم الوطن مما حدا به الى الانشغال بالمفهوم عن الوطن نفسه، فصار وطنه مجردا، فكرة أو ومضة.

وإذا كان في البدء الكلمة أو اللغة كما عند الفلاسفة المثاليين الالمان وعلى الأخص فيخته، فإن عند عبد الله القويري الذي استمد أهم مفاهيمه من الفلسفات المثالية والمذاهب الرومانتيكية، كان الوطن في البدء، فالوطن هو الكلمة الاولى، الحق المتعالي أو الهوية التي تمنح مرة وإلى الأبد وهذه المنحة الغامضة هي منحة كينونة، والقويري يعمل الفكر من أجل إعادة اكتشاف هذه الكينونة في كونها الأول. فالوطن عنده وطن بالقوة لا بالفعل أما الفعل فهو أن نكتشف الوطن، والأصح أن نعيد اكتشافه، فالوطن هوية مطلقة وثابتة والبحث المضني للقويري منصب على هذا المنطلق والبحث عن المنطلق ينبع من سوء إدراك لواقع متغير. ولسوء الإدراك هذا صار وطن عبد الله القويري كامنا كالغريزة حوافزه في النفس نحس به وندركه ونعيه وتساعد عوامل عدة على إثارة هذه الغريزة أو كمدها مثل التربية المتبقية من المرقد الأول. ما قبل التواجد، أو ما تبقى منذ كان الجد – الجد الأول الأجداد الأسلاف الذين ننام على حجر قبورهم لنستمد الرؤيا/الرؤية، وهذا الوطن المورث لا يمكن الخروج عنه لأنه كامن فينا حتى وإن كنا لا ندركه «في اعتقادي إن الشعور بالوطن دائم دوام الاجتماع الانساني، بل هو شعور غريزي نجده عند كائنات أخرى، لا تمتلك الوجدان الانساني، وليست لديها روح الاجتماع الانسانية، ولكن لديها ما غرس في تكوينها وحركتها وهجرتها، ثم عودتها إلى أوطانها».

شخصية عطيل

هكذا يقرأ عبد الله القويري ويحلل شخصية عطيل في مسرحية وليام شكسبير، فعطيل عنده لم يقتل بدوافع الغيرة بل ما قتل عطيل هو وطنه الذي يرفضه الآخرون، إن ياجو وأهل البندقية رأوا دائما في عطيل، عطيل المغربي وان كان الفارس الرجل القوي صاحب المنصب الكبير المهاب في البندقية. لقد قتل عطيل ديدمونة ليس بدافع الغيرة ولكن لان ديدمونة المرأة/المرأة المصقولة التي تكشف وتظهر بجلاء مغربية عطيل /غربة عطيل، وهذا الاغتراب هو القاتل هو أداة غريزة الوطن العمياء، هذه الغريزة القدر الذي طارد عطيل دائما حتى قتل نفسه.

يقول عطيل: «وقولوا أيضا إنني ذات مرة في حلب، حيث هوى تركي شرير معمم على بندقي بالضرب وأهان الدولة امسكت بالكلب من عنقه وضربته – هكذا (يطعن نفسه). ويعلق عبد الله القويري: «انه يعود فلا يجد غير صنو، التركي ظالما مظلوما، مثله كان، ومثله يعود فلا يجد غير نفسه يعاقبها على نسيانها للجذور، وعلى توهمها لوطن ليس وطنه».

شخصية أوديب

هكذا يقرأ أو يحلل شخصية أوديب، حيث يرى ان الذي قتل أوديب – أيضا هو الغريزة العمياء للوطن التي تسمل عينيه: بصيرته وبصره.

إن ما حدث لأوديب كان لا بد أن يحدث وكما يحدث للسمكة التي تخرج من بحرها، إن عماء أوديب عن وطنه الحقيقي هو “ما أعماه، فأوديب الذي غادر وطنه غصبا ومهو طفل لم يكتشف هذا الوطن عند عودته إليه كبطل واغترابه عن الوطن كطفل استمر عند أوديب حتى صار البطل المغترب الذي لا يرى وطنه إلا بالعمى.

وفي إشارة هامة أكد عبد الله القويري أكثر من مرة على انه عاش في (غيتو) نفسي منذ طفولته الاولى أثناء مهجره وهو يقول : «الغطاء الذي كنت أبحث عندما كنت عريانا بلا وطن كانت كلمة (مغربي) تدكني وتبعدني عمن حولي وعن الواقع الذي كنت أحاول غرس اقدامي فيه هم يقولونها بلا حساب وأنا كل مرة اتلقاها من أفواههم، أحسب حسابا لوقعها، فهي مريرة إذ تبعدني وتضعني في ركن قصي وتضع حولي أسرارا ذلك أني غريب».

فهل هذه الاشارة الأولى تكفي لتفسير رؤية عبد الله القويري للمحيط الاجتماعي الثقافي النفسي الذي عاش فيه أثناء التكوين الأول معزولا أم أن هذه الاشارة ستكون الغيتو النفسي غيتو التكوين الذي يعيشه والذي سيسبغ رؤيته والتي ستكون الدافع لاغترابه عند عودته للأرض الأولى، أرض الميعاد!؟

يقول عبد الله القويري: «ليس الوطن هو وليد الطبقة البرجوازية، كما حدث في أوروبا، فالوطن في العالم الثالث، هو نتيجة وعي التراث».

ويقول عند عودته إلى أرض الأجداد التراث: «هل سأشعر بالاطمئنان في هذا اللانهائي المهول؟». بهذا الشك وعدم الاطمئنان وبهذا اليقين الكامن في التوصيف : اللانهائي المهول تبدا رحلة الاقتراب / الاغتراب، إن عبد الله القويري لم يعد إلى أرض أو وطن بل عاد في صيغة السؤال، الباحث عن إجابة، الباحث عن فكرة أو ومضة من أثر شرارة قدحت في ذهنه حين لم يتمكن من مهجره أو يمد لم يكن في المهجر الذي استعصى عليه فردا في جماعة بل الفرد المفرد وبهذه الصيغة بدا الباحث عن الوطن. أي وطن الذي بحث عنه عبد الله القويري؟

التذهن والذهان

حين نراجع أعمال عبد الله القويري الإبداعية ستلاحظ حالة التذهن والذهان عند شخوصه، التذهن حيث التجريد للشخوص من لحمتها الاجتماعية وتحويلها إلى رموز ميته وأفكار والذهان هذه العصابية التي تعايشها وتسكن هذه الشخوص التي هي أفكار مطلقة مجردة وقد لاحظ الناقد الاستاذ يوسف القويري ذلك لفن مخوص مسرحيه (المعاناة من أجل شيء).

الوطن مفارق

إن عبد الله القويري كان يؤصل مشكل الوطن في إطار المطلق الثابت ولا يفسر الهوية في إطار عالم متغير، ان مفهوم الوطن عنده مفارق، وكان من العسير المحافظة على «الهوية في عالم متغير تغيرا سريعا، لأن وقائعه متغيرة، وفي هذه الحالة فان الهوية تصبح غامضة وغير محددة»، لهذا بدا وطن عبد الله القويري يزداد غموضا وتعاليا حتى جنح إلى وطن صوفي لا ملامح له في نهاية رحلة الاقتراب.

وقد كان هذا الغموض غير الشفاف وراء هذا العمل الفكري والإبداعي مما جعل الكثير من قصص عبد الله القويري عبارة عن أقنعة حادة لأفكار مجردة، وجعل عمله المسرحي حواريات فلسفية مثالية حول الكلمة، وجعل عبد الله القويري لا يهتم في كتاباته النقدية بما يكتب في ليبيا بل اهتم أكثر بالكتابات الابداعية في تونس والمغرب وانتقل في نهاية الستينات ليعيش في تونس معللا ذلك بما واجهه من رفض وقذف، وبهذا ظهرت ليبيا معبراً في تحليله (معنى الكيان).

يقول يوسف القويري في رسالة احتواها كتابه الهام (الكلمات التي تقاتل) وأخلن ان هذه الرسالة موجهة إلى عبد الله القويري: «المشاعر التي كنا نتكاشفها خلال سنوات حول صورة الحياة الاجتماعية ومحتواها قد خلقت في أذهاننا ونفوسنا بناء فكريا وعاطفيا منفصلا عن الواقع ومعاديا له وأصبح هذا البناء من القوة بحيث صار حاجبا لكل أمل في الارتباط بالحياة الاجتماعية وبحيث صار قادرا على توليد عواطف سلبية تجاه الواقع وتجاه حركته التي لا تنقطع».

هكذا استنتج ولخص يوسف القويري الذي جمعه مع عبد الله القويري نفس الظرف الموضوعي، دوافع وأسباب ان عبد الله القويري مات وهو يبحث عن الوطن، أي مات دون وطن.

والسؤال هل هنالك وطن لم يجده عبد الله القويري ولكن بالا مكان أن نجده أو أن نوجده؟


مقتطفات من السيرة الذاتية (الوقدات) للكاتب عبد الله القويري

.. عندما كنت في الصغر كانت أمي تمسح رأسي بزيت الزيتون وتطلق دعواتها مستنجدة بسيدي عبدالسلام الأسمر فارس سعيدة ولم يكن لديها من حول غير ذلك… وتتركني أصارع الحمى بدعواتها.. وعندما كنت مريضاً في إحدى المرات وجاءت تزورنا سيدة كبيرة في السن طويلة القامة، أجشة الصوت تحمل (قبتا) على رقبتها، في لحيتها بعض الشعيرات الطوال.. أذكر اسمها الا خالتي (الشعالية) طلبوا منها أن ترقبني. تلت دعواتها على رأسي ثم طلبت مني أن أفتح فمي، وما إن فتحته حتى تفلت فيه.

.. قال وليم: أنت مثالي فردي.

قلت : وماله.

.. أنا مثالي كما قال وليم عن حق ولكنني لم أكن فرديا. كنت ذلك الحزين الدائم. قليل الأمل كثير الألم.

.. لم يستطع أبي أن يقنع عمي بشراء أرض زراعية. قال عمي في صلابة وغضب : لا نمتلك في أرض الفلاحين.

.. كنت خائفا رغم انني لم أبتعد كثيرا عن سوق المغاربة، وبين أونة وأخرى أرى طاقية مغربية بزرها يلبسها شخص فوق رأسه، فأحس بأن أصرة خفيفة قد نمت بيني وبينه للحظات كأننا مددنا أيدينا يسلم كل منا على الأخر.

.. يسكت عم ابراهيم قليلا ثم يقول:

– انتم مغاربة وعرين،

– كيف ؟

.. ما أن رآنا والدك الله يرحمه حتى استشاط غضبا، كان من رأيه أن نشتري الطوب من هنا. ولكن لم نسمع كلامه. الوعورة في طبعكم فأنتم لا تقبلون ما تأتي به الأقدار.

.. ما أشدها قسوة على النفس أن يضل الإنسان طريقه إلى وطنه.

.. كنت أريد الحديث عنه، ترابا وجبلا وشجرا وجفافا وجرادا وحضرة وشعيرا وجوعا وعطشا.

.. كدت أعانق شيئا غير مرئي.

.. هو احتياج إلى معنى، لم يخلفه معنى غيره.

.. اسمع صوتا يقول: انظر اليه واقفا ما زال… هناك عند الحدود، ينشد كشاعر الربابة أشعار مدح هزيلة، مستدرا عطف أصحاب الدار.

.. وجدت نفسي تهفو اليه دون أن أحدده رغم ما سمعت عنه وعرفت وأدركت، الا أنه ظل ذلك المعروف المجهول.

.. الضوء الأبدي الذي تسير على هداه القلوب فلا تضل وتعمل في هداه الأيدي فلا تكل، وتبدع في سناه العقول فلا تمل.

.. نظرت الى الاتساع أمامي، لم أر شجرة، لم أر غرسة صغيرة ليس من نبته. صخور جرداء، وحصى وحصباء. ورمال في المدى وغبار وتذوقت طعم التراب ودمعت عيناي.

.. لم أجد لغة أتحدث بها لقد أصبحت لغتي خاصة بي فهي كلمات بلهجات مختلفة تتراوح بين اللهجة الليبية والمصراتية على التحديد والتي كان يتحدث بها أهلي في دارهم، وقد بعد الزمن بيني وبينها واللهجة الصعيدية أو هي لهجة مصر الوسطى على التحديد بل قل لهجة مديرية المنيا ثم غطت ذلك اللهجة القاهرية، إلى كثير من الكلمات والأدوات الفصيحة والتي أصبحت لغة المثقفين مع بداية الخمسينات فهل باستطاعة أي منهم أن يفهمني بهذه الواسطة الجديدة؟


(عبد الله القويري: سيرة الباحث عن وطن)، أحمد الفيتوري، مجلة المسار؛ العدد: 41-42، 1 مارس 1999م.

مراجع وهوامش:

1- الوقدات: عبد الله القويري – الطبعة الأولى – الدار العربية للكتاب / طرابلس – تونس.

2 ـ معنى الكيان : محاولة نظرية لفهم الواقع الليبي – عبد الله القويري د.ت.

3 ـ النموذج الثوري في الادب والفن: عبد الله القويري كتاب الشعب 1 – 3 الطبعة الأولى 1986 – الناشر: المنشأة العامة للنشر طرابلس.

4 – ذلك العساس: عبد الله القويري الناشر: المنشاة العامة للنشر – الطبعة الأولى 1984.

5 – علامات مهجورة – عبد الله القويري – الناشر المنشأة العامة للنشر – الطبعة الأولى 1985.

6 ـ الهوية الثقافية في الزمان – المحرر مراد وهبة أبحاث المؤتمر الخامس للمجموعة الأوروبية العربية للبحوث الاجتماعية – 1992 – الطبعة الأولى – الناشر مكتبة الانجلو المصرية.

هامش: قدمت هذه الورقة خلال ندوة (عبد الله القويري / الانسان والمبدع) التي أقيمت بنقابة المهندسين ببنغازي خلال شهر رمضان الماضي وذلك في الذكرى الثانية لرحيل الكاتب الأستاذ عبد الله القويري وكانت ندوة تحت إشراف مجلة الفصول الأربعة ومجلة نقابة المهندسين ببنغازي.

مقالات ذات علاقة

علي إرميص…فرادة التجربة

مهند سليمان

كل يوم شخصية ليبية مشرقة (15).. السيدة حميدة العنيزي

حسين بن مادي

لا أريد مستقبلا يفصلني عن الماضي

المشرف العام

اترك تعليق