طيوب عربية

روايةُ (هيباتيا الأخيرة): تساؤلاتُ فنتازيا السرد التونسي

رواية (هيباتيا الأخيرة) للكاتبة التونسية أمينة زريق
رواية (هيباتيا الأخيرة) للكاتبة التونسية أمينة زريق

يشير الفيلسوف الإغريقي (سقراط) في كتابه (التاريخ الكنسي) إلى شخصية (هيباتيا) قائلاً: (كانت هناك امرأة في الإسكندرية تدعى هيباتيا، وهي ابنة الفيلسوف ثيون. كانت بارعة في تحصيل كل العلوم المعاصرة، مما جعلها تتفوق على كل الفلاسفة المعاصرين لها، حيث كانت تقدم تفسيراتها وشروحاتها الفلسفية، خاصة فلسفة أفلاطون لمريديها الذين قدموا من كل المناطق، بالإضافة إلى تواضعها الشديد لم تكن تهوى الظهور أمام العامة. رغم ذلك كانت تقف أمام قضاة المدينة وحكامها دون أن تفقد مسلكها المتواضع المهيب الذي كان يميزها عن سواها، والذي أكسبها احترامهم وتقدير الجميع لها.) (1)

وانطلاقاً من هذه السيرة المتميزة ظلت الأسطورة الاسكندرانية “هيباتيا” محركاً ملهماً للعديد من المبدعين الروائيين حيث صدرت حولها رواية (هيباتيا والحبُّ الذي كان)(2) للكاتب داوود روفائيل خشبة، يروي فيها قصة الأيام الأخيرة من حياتها ووحشية اغتيالها عام 415م. بينما الروائي فكري فيصل في روايته (هيباتيا)(3) يتتبع حياة الفيلسوفة منذ ولادتها، ويبرز الصراعات بين الديانة المسيحية ومدارس الفلسفة الإغريقية ومعاقل العلم والحكمة والطب والفلك والهندسة، وفي ثنايا هذا الصراع الفكري تستعرض الرواية ما تعتمره “هيباتيا” في سبحاتها الخلوية وأنفاسها من أفكار مستنيرة جعلتها تحظى بصفة أعظم إمرأة في تاريخ الفلسفة ورمزها الأبدي.

أما في تونس فنجد الأديبة أمينة زريق تصدر روايتها (هيباتيا الأخيرة)(4) لتواصل بث الحياة في أسطورة تلك الفيلسوفة التاريخية القديمة خلال زمننا الراهن وتعيدها مطبوعة بروح وأفكار متجددة، ورؤية وطنية تونسية متفردة، تؤكد بها مشروعية شيوع وانتشار الفكر والأدب في أرجاء متفرقة من العالم ليكون جسراً جغرافياً وزمنياً بين الأمم والأجيال، واستلهام الدروس والعبر المثمرة وتوطينها وغرسها في هذا الحاضر. ولكن السؤال الذي يقفز مبكراً إلى الذهن هو لماذا اختارت الأديبة أمينة زريق أن تعيدنا إلى الماضي باستذكارها شخصية (هيباتيا) وكأـن الحياة بحالة النوستالوجيا تمنحها بهجة ومسرة أفضل من الواقع الحالي؟ وما هي المقاصد والغايات التي تنشدها وتود أن تبعثها من خلال رسالة الاسقاط التاريخي الماضوي على زمننا الحاضر عامة، ومسيرة الحياة في تونس بشكل خاص؟ وهل شخصيات روايتها (العربي مخ الهدرة) و(المزوغي) و(للاّ حلومة) من وحي خيالها الروائي أم أنها حقيقية متجذرة في الواقع التونسي ومقتبسة منه؟ وهل هناك علاقة بين (راوي كافكا القيرواني) أحد شخوص الرواية مع شخصية الأديب التشيكي (فرانس كافكا) الحقيقية؟ وما هي أبعاد الزمن التخيلي المستقبلي الذي ابتكرته الروائية محدداً ودقيقاً بتاريخ 14 جانفي الذي تظهر فيه (هيباتيا) في باريس سنة 2060م، ثم في فيينا سنة 2061م، وبعدها في روما عام 2065م وأخيراً بالفاتيكان سنة 2070م؟

ولا تقتصر التقنيات الممتعة في رواية (هيباتيا الأخيرة) للأديبة أمينة زريق على تقمص الكاتبة شخصية الساردة لتتوارى وراءها فحسب، بل تضمنت بجانب ذلك محاورات تلك الساردة اللذيذة لكاتبة الرواية نفسها في مشاهد جمالية ثرية بالمعرفة والاستفزاز الفكري، إضافة إلى براعة التصوير والوصف الدقيق الموغل في عمق الحياة التونسية، وكذلك عناصر المغامرة والمفاجأة والإبهار في عرض فكرة التهجير الخيالية وتجسيدها وسط ثنايا الفضاء الروائي، مما يضفي عليها معايشة تتسم بالواقعية والجدية. ولتحقيق كل تلك الجاذبية المتتالية، يبدو أنَّ الكاتبة منحت الساردة مطلق الحرية في استخدام أدوات وأساليب التعبير، فأزالت من أمامها كل الحدود والقيود حتى وصل الأمر إلى مشاكستها علانيةً أمام القاريء ومعارضتها أحياناً، بل وحتى محاولة قتلها (سأكسرُ مملكتها وأباغتها، ربما أُرديها قتيلة حين تفتح الأوراق فتجدني أسردها، أمحقها ثم أعيد تشكيلها كما أريد، ستغدو “أمينة زريق” مجرد شخصية من الشخصيات)(5). كما نجدها أحياناً تذهب إلى أبعد من ذلك في المحاججة بصفاقة حين تقول وكأنها تحاكم الكاتبة وتصدر أحكاماً تنكر عليها جهودها كافةً (أنا التي رويت. أنا التي شكلت ووضعت الملامح التي أحبها لشخصيات طالما تقافزت داخل ذهني. مَنْ تكون الكاتبة إذن، هي لا أحد بل لا شيء، دمية أحركها وأتجسد في خيالها كي تكتب)(6)

وتضيف بروح يملؤها عنفوان التمرد على الجميع، وحدتها الواثقة المعترفة بعدم أمانتها (الكاتبة تغط في نومها، ولا تدري أنّي لستُ أمينة مثلها، وأنها لن تقوى على ردعي بعد الآن. أفاجئها، وسوف أباغث الجميع بسردي الغريب، عن البلاد وأحوالها, لكن لابد لي من التأكد أولاً أنها مازالت في غيبوبتها تكتب عن الإصحاح والسفر، عن الروح والقلب، سأكون قادرة في يوم ما على إيذائها لأنها لم تنتبه إلى صوتي منذ أن قررت الكتابة. قلتُ لها لا تكتبي الشعر فكتبت، وقلتُ لها إياكِ والتوغل في الروح فتوغلت، وقلتُ لها لا تحشري نفسك في زمرة الأحداث ولكنها حشرت، قلتُ إياكِ وحشري في رواية ما، وها هي تنطقني رغماً عني. تباً لكل الكتاب وسحقاً لكل الرواة! سأشغل محرقة الأدب في هذا الزمن. وحدها المحارق تليق بعذابات من كتبوا.)(7)

وهكذا نلاحظ أن الساردة في مواجهتها للكاتبة تتجاوز كل الخطوط الحمراء ولا تتوانى في التقليل من شأنها واستصغار دورها في كتابة الرواية والاستخفاف بها، وترفع في وجهها تحدياً ووعيداً بتوقيع عقوبات تطالها وجميع الكتاب، انتقاماً على اختيارها واحدة من شخصيات الرواية، ولا شك أن هذه التقنية الأسلوبية المتقابلة أو المتعارضة التي أتقنتها الكاتبة بكل مهارة ارتقت بدرجة الإمتاع السردي وتعلق القاريء بالنصّ، وفجرّت في ذهنه العديد من الأسئلة لعل أبرزها: كيف يمكن للساردة أن تتمرد فتكيد أو تقتل الكاتبة التي صنعتها وأطلقتها في العمل الروائي؟

وعند محاولة تفكيك هذا التساؤل قد يرى البعض أن فكرة رواية (هيباتيا الأخيرة) تنتمي إلى أدب اللاواقع الذي يتعاظم فيه الخيال الخلاب الواسع برسمه شخصيات متعددة، وخلقه أحداث متداخلة بعيدة جداً عن النسق المعتاد لواقعية الحياة الطبيعية وقضاياها المختلفة وبذلك يفرض سيطرته وهيمنته الكلية على فضاء النصِّ ومجريات الرواية. وربما يعتبر آخرون أن الحبكة الدرامية بهذه الرواية المتمثلة في دعوة التوانسة للهجرة إلى أوروبا تنتمي إلى ما يعرف في الأدب بالفانتازيا، وهو مصطلح حداثوي يشير إلى النصوص الروائية أو القصصية التي تتشكل من أحداث غير منطقية تقوم بطرحها كوقائع وهمية تتسم بالغرائبية غير المألوفة ولا تمت للحقيقة بصلة، معتمدة على الأساطير التاريخية والخرافات والأفعال الخارقة التي ينسجها الخيال (خمسة أيّام وأربع ساعات وخمس دقائق هي الفترة المتاحة للهجرة اللّامشروطة!، تُفتح خلالها المعابر على إيطاليا وفرنسا وإسبانيا بمقتضى اتّفاق أمميّ وبادرة قامت بها الدّول الثّلاث (فرنسا-إسبانيا- إيطاليا) لاستقبال التّونسيين الرّاغبين في الهجرة… يمكن خلال هذه الفترة القصيرة قبول المهاجرين دون جواز سفر أو فيزا لأنّها ستسند لهم بطاقة هويّة جديدة طالما حلموا بها، كلّ ما يحتاجونه هو إجراء فحص طبّيّ في البلد المضيف وألّا يجلبوا معهم أغراضًا من بلدهم. فهم مطالبون بحمل حقيبة ظهر صغيرة لا غير)(8) 

فهذا الإعلان الأوروبي للدول الثلاثة يعد صادماً بغاياته ومراميه الهادفة إلى تفريغ تونس بالكامل، يستوقفنا فيه الشرط الأساسي العلني والصريح (ألاّ يجلبوا معهم أغراضاً من بلدهم) لتتضح النوايا الحقيقية من عملية التهجير الممنهج وهي القضاء على الإنسان أبرز عناصر تأسيس الحضارة العربية والإسلامية العريقة، ودفن تراثه الماضوي ومنجزه الفكري برمته، وقطع سبل التواصل مع كل موروث وانتماء له مع الوطن وهويته التونسية بجميع صورها.

ووفقاً لهذا الهدف تتابع فصول رواية (هيباتيا الأخيرة) التي تأسست على فكرة افتراضية تخيلية لا يمكن حدوثها في الواقع، ولكن الأديبة أمينة زريق أجادت نسج هذه الالتقاطة الغريبة وتأطيرها روائياً بوقائع متلاحقة بتقنيات مهارية وحرفية أبانت فطنتها بالغوص بعيداً في أعماق الكيان التونسي بحثاً عن موضوع فريد تستخلصه من خضم الحياة اليومية للتوانسة ومعاناتهم ومكابداتهم المعيشية التي طالت جميع شرائحهم الاجتماعية جراء التغيير الربيعي وما سببه من فوضى عارمة وإسقاط للدولة الوطنية وفاعليتها برمتها وليس تغيير أنظمة الحكومات الفاسدة فحسب.

وتتصاعد وتيرة مشاهد الرواية في رصد تداعيات قرار التهجير الأوروبي المفاجيء، دون تركيز اهتمامها على حيثيات وتفاصيل أسبابه الحقيقية، ولا البحث في غرابة هيمنته على فكر التونسيين كافةً، بل اختارت وصف انعكاساته التفاعلية عليهم، من خلال مظاهر وصفية وحوارية لكيفية تقبله واستقباله والتعاطي معه بجميع فئاتهم ومهنهم ومستوياتهم الطبقية المختلفة سواء في الوظيفة الحكومية العمومية أو الأنشطة الخاصة. وتتواصل الرواية بهذا النسق الممتع حتى ذروتها التي تتحقق بإظهار من يمتنع عن المغادرة والبقاء في تونس، وكشف الوطني الغيور على بلده الذي يتشبت بأرضه، وفضح من يتركها إلى المجهول سعياً وراء أحلام الهجرة وأوهام العيش الرغيد.

(- أعلاش ما سافرتش إنتي يا عربي هاااا؟

– أنا نظيف مشني أمسَّخ كيفك وزيد عندي مدرسة نحرس فيها أما أنت فاش تعمل يا …)(9)

وفي ذات السياق الفانتازي استحضرت الكاتبة فكرة مفزعة أخرى بعنوان صادم (تونس للبيع) لتعاكس بها المبدأ المتصل بالقيم الوطنية للإنسان التونسي الأصيل المتمثلة بالعشق الثابت للخضراء والتضحية في سبيلها، وتجريم جميع أشكال خيانتها، إلاّ أننا نجدها سرعان ما تتدارك الرواية بشاعة ذاك العنوان الغرائبي لتنقلب على فكرة بيع الوطن الشنيعة كلياً لتؤكد بروح وطنية وصوت واثق (لن يخون شعب بأكمله أرضه، وينحرها أمام مرأى ومسمع كل شعوب الأرض. لن تفعلها يا شعب تونس، لا لستم من يبيع بأبخس الأثمان.)(10)

الكاتب الليبي يونس الفنادي رفقة رواية (هيباتيا الأخيرة)
الكاتب الليبي يونس الفنادي رفقة رواية (هيباتيا الأخيرة)

 تعد (هيباتيا الأخيرة) المغامرة الروائية الثالثة للكاتبة أمينة زريق بعد (سفر القلب)(11) و(إصحاح الروح)(12) اللتان اتسمتا بفيوض نفحات صوفية بسيطة مستمدة من عبق المكان ونشأة الكاتبة وسط البيئة القيروانية الموروثة، ولكن (هيباتيا الأخيرة) ألمحت صراحة إلى انتمائها للمذهب الصوفي المتسم بالتعمق الفكري التأملي، والفلسفة الروحانية العقلانية، كما أوردت في ثنايا الرواية ذاتها، حين كشفتها الساردة وهي تعترف بفوضوية الفكرة الفلسفية التي تخلقت منها أحداث الرواية وولّدت في داخلها ذاك السؤال المثير (لِمَ أكتبُ روايةً بهذه الفوضى؟ الأحداث انفلتت مني! عليّ أن أعترف الآن بذلك وأمينة زريق غارقة في عوالم تصوّفها، فهل سيُنقذ تصوّفها البلاد؟ يا لها من سيّدة مغرورة!)(13). إن الساردة هنا لم تكتفي باعترافها بغرابة سردها المفاجيء للجميع، بل تقر بأنها تكتب رواية فوضوية، وتتسائل عن دواعي ذلك، ثم تذهب لتوريط الكاتبة أمينة زريق ضمنياً في تلك الأسباب بعد أن تنعتها بالغرور وتسخر منها بروح تهكمية تشكك في قدرتها على إنقاذ تونس باتباعها المذهب الصوفي!.

إن فكرة الرواية التي استطاعت الكاتبة تأثيها بعناصر مشوقة بداية من الأسطورة، والوصف، وصوت المونولوج الداخلي، والسؤال الاستفزازي، والحوار باللهجة التونسية والقيروانية تحديداً، الذي يعد أحد عناصر الهوية الوطنية التي انصبغت بها الرواية، انبثقت من ثناياها وتشكلت من رحمها حبكة درامية ارتقت بالقيمة الإبداعية للنصِّ إلى مراتب متقدمة، فأبرزت الأخيلة الخلابة العديد من جمالياتها الفنية الرائقة، من بينها البحر المائي الذي تفتق عنه ذهن الكاتبة فصنعته بعمق البلاد التونسية بمدينة الأغالبة، لتحدث انقلاباً جغرافياً وبيئياً يبدل الصيف الساخن بالقيروان إلى فصل معتدل لطيف، تلفح أنسامه الباردة وجوه القيراونيين، ويجعلهم يستمتعون بالسباحة في المالح ويبنون من ذرات رمال شواطئه بيوتاً وأحلاماً خيالية لا وجود لها في واقع مدينتهم العريقة.

أما على الصعيد الموضوعي فإن الرواية مثلت خروجاً على نمط الروايات التقليدية الصادرة تأثراً بالموجة الروائية الوطنية التي عالجت قضايا الشأن التونسي إثر التغيير العربي، حيث ظلت (هيباتيا الأخيرة) عبر فصولها التي فاقت ثلاثين فصلاً تشاكس الواقع المجتمعي التونسي المتردي وتجلده بسهام نقدها الجاد، مستخدمة تقنية بدأت تسجيلية وصفية ولكنها سرعان ما تبدلت أثناء تطور أحداث النص الروائي إلى استغرابية أو تعجبية بدرجة كبيرة من الإثارة. فالحبكة الرئيسية للرواية ظلت مبهرة جداً، ومفاجئة للجميع، حين أسست الكاتبة هيكل ومضمون الرواية على الإعلان والدعوة للهجرة الجماعية واتخذته حدثاً محورياً رسمته أخيلتها، وجعلته محركاً درامياً مزداناً بتفاصيل دقيقة مثل فتح المعابر الحدودية للتونسيين الراغبين في الهجرة، ومنحهم مهلة زمنية للتخلي عن بلادهم وراء إغراءات أوروبية لا نظير لها، مما سبب حالة من الفوضى العارمة والارتباك الذي طال جميع الشرائح التونسية في كامل البلاد، وهذا الانشغال بالشأن التونسي فكرياً وعملياً، يجعل (هيباتيا الأخيرة) تنتمي إلى الكتابة الروائية المنحازة إلى الوطن بكل جدارة من حيث موضوعها الذي وظفت فيه الأسطورة التاريخية حين اقتبست اسم شهيدة الفلسفة الاسكندرانية المصرية وصدرتها عتبة عنوانها الأول، ومن ثم إسقطاها بكل براعة على مجريات الأحداث بنكهة محلية تونسية وأسلوب يتسم بالنقد المبطن اللاذع، والتنديد والتعزير الموجه لكل الذين قبلوا الهجرة وتركوا الوطن، وباعوه أثناء أحلك الظروف بأبخس الأثمان نظير أحلام العيش بعيداً عنه بأوهام سعادة وهمية في أوروباً (تقدم عدد كبير من ضباط الأمن باستقالة جماعية صباح هذا اليوم. كما أعلن رؤساء الأحزاب جميعهم عن حلِّ أحزابهم. إضافة إلى خبر استقالة عدد لا بأس به من الوزراء والنواب، وسنوافيكم بأسماء المستقيلين في بيان مفصل.

لم يستطع السائق أن يستمع إلى باقي الأخبار.

– باعوها البلاد أولاد الكلب .. الكلاب الله لا تربح والديهم … أوباش الكلاب .. أوباش قطّعوا بعد ما اخلات … خلاوووها وقصعوا الكلاب.

– مش الكل. أعلاش تسب فيهم؟)(14)

أما عند استعراض أسماء شخصيات الرواية المتصدرة عناوين فصولها نجد أن لها حضوراً وافراً وجذوراً مترسخة في المجتمع التونسي وإن برزت متبوعة بإضافة بعض التوطئات أو عبارات العناوين الفرعية القصيرة مثل: (العربي مخ الهدرة .. البراد وقد اختنق) و(المزوغي … يا ربي من سيبقى) و(سهير .. لا يحدث هنا إلاّ في رواية ساذجة) و(للاّ حلّومة .. الخلاص) و(المزوغي .. الرفاق بح بح!) و(سهير .. هل مازال في اليمن مكان للعصافير؟). ومن خلال دلالات هذه النماذج (العربي، المزوغي، للاَّ حلّومة) نجد أن (هيباتيا الأخيرة) تضمنت رمزية عميقة ممثلة في شخصية (للاَّ حلُّومة) تحيلنا إلى معاناة البلاد وسقوطها وحزنها (سقطت للاَّ حلّومة بكلِّ ثقلها وسنواتها وتنقل أسرار الموتى الذين غسَّلتهم والمواليد الذين استقبلتهم على الأرض وانفجرت باكية من ألم السقوط)(15)، كما تعالقت مع أسماء كثيرة وأمكنة ومدن خارج الجغرافيا الوطنية التونسية مثل باريس وفيينا وروما والفاتيكان واليمن التي سافرت إليها الرسامة (سهير) حاملة لوحتها (هيباتيا) هروباً من فوضى بلادها تونس (ستمكث في صنعاء فترة لا تعرف مدتها. هي لا تعرف أن رحلتها التي حسبتها قصيرة إلى صنعاء ستكون رحلة استقرار لم تره من قبل.)(16)، وكذلك استحضار الأديب التشيكي (فرانس كافكا) من خلال حديث (راوي الكافكا القيرواني) وسؤاله (لا علاقة لي بعوالمها. ومن هي أمينة زريق أصلاً ومن تكون أمام فرانس كافكا؟)(17)، كما تستفزنا وتستفيقنا الرواية أيضاً بالسؤال الخطير الذي يصفع أحلام الهجرة والآمال المزيفة والسعادة الوهمية حين أثارته في مستهل أحد فصولها (راوي كافكا القيرواني: وجدتُ نفسي أقتفي أثر السيدة سهير): هل كان لابد من الهجرة؟(18)

وبتحليل كل هذه المشاهد نكتشف أنها تأتي توافقاً مع ما ورد في مقالة (التحول السياسي في الرواية التونسية) للناقد والروائي محمود طرشونة التي يقول فيها بأنه (لم يعد هناك من يجادل في ربط النصِّ بمحيطه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فضلاً عن اعتبار علاقته بكاتبه وبنفسيته وظروف كتابته. إلاّ أن الإشكال بقي قائماً بخصوص طبيعة هذه العلاقة وطريقة الربط بين داخل النص وخارجه، أي بين خصائصه الفنية والعوامل التي ساهمت في إنتاج المعنى وتحديد الدلالة.)(19)

وبالإمكان تسجيل إضافة إلى تلك المقالة بأنَّ الرمزية أو الإيحائية التي تتخفى وراءها الكثير من الدلالات والإشارات وتتعدد تأويلاتها تأتي ضمن هذا السياق التحليلي الدقيق، والذي يتعزز كذلك بما أورده الناقد الدكتور عبدالرحمن مجيد الربيعي في قراءته للتحولات السياسية والاجتماعية في الرواية التونسية المعاصرة (لا يمكن الحديث عن مضامين قصص وروايات بمعزل عن المراحل السياسية للبلد الذي كتبت فيه، إذ أنها حتى لو جنحت إلى وموهت، فإن الربط بين مضامينها وواقع كاتبها ومرحلتها لن يكون عسيراً. وبقدر ما كان الهاجس السياسي وكذلك الاجتماعي قوياً لدى جل الرواد في أي بلد عربي كانوا شرقيا أو مغربياً فالحال من بعضه كما يقال، استعمار، تخلف، سرقة ثروات، دكتاتوريات، قمع للمعارضين عداء للأحزاب التي لا تنصاع لإرادة الحكام.)(20)

وتأسيساً على هذا الطرح يمكننا التّساؤل والبحث عن أوجه إلتقاء وروابط العلاقة بين أحداث (هيباتيا الأخيرة)، وإن كانت افتراضية تخيلية، وإسقاطاتها المباشرة على أحداث الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تونس، ومدى دقة تصويرها ووصفها السردي، ونجاعة توظيف رمزية الأسطورة الفلسفية (هيباتيا) على شخصية الكاتبة أمينة زريق الخاصة أو المرأة التونسية بشكل عام؟ وما غايات الكاتبة من هروب الرسامة (سهير) بلوحتها الفنية (هيباتيا) إلى اليمن الذي يعاني صراعاً طائفياً مسلحاً يمزق نسيجه الاجتماعي ويفقده الأمن والاستقرار المنشودين؟

كما تتيح لنا كل تلك المشاهد التمعن في دلالات المواقف الوطنية التي عرضتها الرواية، وتوثيقها إصرار بعض الشرائح التونسية على رفض الهجرة والبقاء في البلاد على غرار ما جسده الإنسان التونسي البسيط (العربي مخ الهدرة) بعدم التفكير مطلقاً في مغادرة تونس بل السعي لإصلاح أوضاعها الداخلية بما توفر من إمكانيات تجسيداً لحبه الصادق وإنتمائه الحقيقي للوطن، وليكون بذلك الصنيع النبيل رمزاً للمواطن الغيور والإنسان الأصيل العاشق لتونس الخضراء والأمين عليها (العربي … أمين البلاد… أعجبته الجملة التي سمعها أو خيل إليه أنه سمعها ولم يجد لها معنى أو تفسيراً لكنه أحس أن أزرار قميصه التي ضاعت منه وكشفت عن صدره النحيل وشيء من مريوله الداخلي الذي فقد بياضه لشدة الإهتراء، لا تليق بلقب أمين عام البلاد. أخذ الخيط الأسود ذاته الذي رقّع به علم البلاد، وبدأ يصلح أزرار قميصه، يستلها من الأكمام ليخيطها أعلى الصدر .. أن يكون الكم بلا أزرار لا يهم، أما الرقبة فهذا أمر أخر .. مع آخر زر أصلحه .. كان الشاي قد فار عن البراد وأخمد النار في الكانون!)(21)، ولا شك فإن هذا المقطع يكتسي جماليات فائقة لعل أبرزها التأويلات المتعددة التي يحتويها ويمكن أن تظهر إحداها كدعوة إصلاحية تنبعث من عشق حقيقي وولاء للهوية التونسية، تكللت نهايتها بإنهاء الصراعات وعودة استمرارية الحياة الاعتيادية الآمنة بكل أنساقها الطبيعية وفاعليتها على أرض الوطن، نتيجة إيمان عميق وفلسفة فكرية ترسخ سلوكيات وأدبيات المواطنة الحقيقية وفق هذه المباديء الثابثة وهذا الإطار الراسخ كما صورتها عملية ترقيع الأزرار وستر العورة وكل أنماط الإصلاح لوقف الفتن وإخماد النيران.

إن الرواية لا تكتفي بهذه الدعوة الإصلاحية الايجابية الواضحة لإعادة قطار الوطن إلى سكة المستقبل بل قد تفجر العديد من الأسئلة الأخرى المتعلقة بالأحداث المسرودة وعلاقتها بتونس سواء حول عبثية واقعيتها وغلبة التخيلي الافتراضي في تفاصيلها على الواقعي الحقيقي، أو القول بأنها تفتح آفاق استشفاف المستقبل الذي ربما يحمل في قادم الأيام قراراً خطيراً يهدد استقرار الوطن، مثل التهجير الممنهج الذي اتخذته الرواية محركاً درامياً لحبكتها السردية الجميلة؟ ولاشك أنَّ حبَّ البلاد هو المحرك الذي يولّد الخوف عليها من مشاريع الفتنة والفساد، وبالتالي التنبيه والتحذير والتحصين بفكر يجمع منطق الفلسفة العقلانية مع مولائمة الواقعية السيَّارة، في إطار علاقات متداخلة قد تجتمع في نقاط مشتركة أو تتباين في اختلافات معينة، ولكنها في جميع الأحوال لا تتصادم مادياً بل فكرياً وحوارياً. وفي هذا الإطار جاءت (هيباتيا الأخيرة) التي يتأكد جلياً أنها بعشقها لبلادها تونس وغيرتها الوطنية وفرادة فكرتها وأصواتها البوليفونية المتنوعة، وحواراتها ولغتها الروائية الرشيقة، تعتبر منجزاً إبداعياً ينحاز للوطن أولاً وأخيراً، كما يفتح شهية التأويل والتدبر في الشخصيات وكذلك الأحداث التي تمت صياغتها ببناء سردي متماسك ومتتابع، يتشارك فيه التخيلي الافتراضي الرحب متطعماً ببعض الحقائق الواقعية المنغمسة في ثناياه. وجاء الوصف والأسلوب السردي بمفردات وعبارات سلسة، موغلة في البساطة والإثراء التعبيري عن مضامينها التي تعكس فكراً حالماً بوطن تزدهر فيه الحياة والمحبة، ويمتشق أهله أمنياتهم العذبة فيغرسونها في رحم الغد وهم على ثقة بأنها ستزهر لاحقاً بعقيدة لا تخفي حقيقة بقاء واستمرارية الحياة التي صورتها الرواية (الصّومعة وحدها بقيت شاهدة على ما مضى)(22) حاملةً إيحاءات ودلالات دينية واضحة ترسخ الإيمان والمحبة والثقة في الله، والولاء والانتماء للأرض التونسية، كما تعزز التأكيد بالأمل في المستقبل لأن الله يقيناً طوال مسيرة هذه الحياة التي أساسها ثنائيات البقاء والفناء، والنهوض والانكسار، لن يخذل الأنقياء من عباده (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)(24)، ولكن مع هذا ستظل (هيباتيا الأخيرة) تطوقنا بهواجس مسيطرة وقلقة، وأسئلة عميقة لا تتوقف، من بينها هل غابت الحكمة الرشيدة، والسلوكيات الصوفية الروحانية، وفلسفة الإجراءات المدنية العملية، عن معالجة الأحداث لسلامة واستقرار تونس، وأخيراً (هل قضت زريق خلف الأحداث، وماذا لو أنها غادرت البلاد كما غادر جلُّ الكتاب والمثقفين؟)(25)


(1)  للمزيد أنظر: التاريخ الكنسي، أورديك فيتالي، ت. سهيل زكار، التكوين للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2008م

(2)  هيباتيا والحبُّ الذي كان، رواية، داوود روفائيل خشبة، منشورات المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2010م

(3)  هيباتيا، رواية، فكري فيصل، دار بيلومانيا، القاهرة، الطبعة الأولى، 2023م

(4)  هيباتيا الأخيرة، رواية، أمينة زريق، الأمينة للنشر والتوزيع، تونس، القيروان، الطبعة الأولى، 2021م

(5)  هيباتيا الأخيرة، مصدر سابق، ص 55

(6)  نفس المصدر السابق، ص 51

(7)  نفس المصدر السابق، ص 55

(8)  نفس المصدر السابق، ص 7

(9)  نفس المصدر السابق، ص 122

(10)  نفس المصدر السابق، ص 44

(11)  سفر القلب، رواية، أمينة زريق، دار زينب للنشر والتوزيع، تونس، الطبعة الأولى، 2017م

(12)  إصحاح الروح، رواية، أمينة زريق، دار زينب للنشر والتوزيع، تونس، الطبعة الأولى، 2018م

(13)  هيباتيا الأخيرة، مصدر سابق، ص 76

(14)  نفس المصدر السابق، ص 27-28

(15)  نفس المصدر السابق، ص 121

(16)  نفس المصدر السابق، ص 29

(17)  نفس المصدر السابق، ص 167

(18)  نفس المصدر السابق، ص 182

(19)  محمود طرشونة، التحول السياسي في الرواية التونسية، مجلة تبين Tabayyun، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، قطر، العدد 2، المجلد الأول، خريف 2012م، ص 86

(20)  عبد الرحمن مجيد الربيعي، التحولات السياسية والاجتماعية في الرواية التونسية المعاصرة، مجلة الحياة الثقافية، وزارة الثقافة، تونس، العدد 232، 1 جوان “يونيو” 2012م، ص 75.

(21)  هيباتيا الأخيرة، مصدر سابق، ص 222

(22)  هيباتيا الأخيرة، مصدر سابق، ص 23

(24)  سورة الرعد، الآية رقم 17

(25)  هيباتيا الأخيرة، مصدر سابق، ص 171

مقالات ذات علاقة

«ضد المكتبة» بيان ضد الكتب الرديئة

خلود الفلاح

سناء مصطفى…فقط كعناقك الأخير

مهند سليمان

أسطورة التياع

آمال عواد رضوان (فلسطين)

اترك تعليق