قصة

نطقُ الأرواح

الجدارية، من أعمال التشكيلية الليبية مريم الصيد
الجدارية، من أعمال التشكيلية الليبية مريم الصيد

1

ذات مساءٍ كأنها كانت تسمع حديث أحلام جميلة لا تنطق بها إلا الأرواح القدسية الجلية تسمعه جالسةً بالقرب من مَجلسها الأثير ، تسمعه ينساب في الساعات الجريئة في عزّ الليالئ المظلمات بينما صهيل الدّجى المٌتنصّت على سكون الليل يسمع بمفرده حديث الأكنّة وما تخفيه الحُجب   … هكذا هو المساء قد بدا لها قادماً في ليل المهابة الخفي وراء حجاب الكون  و سُرج ألبيوت النيرات . يتسلسل في صمته المندثر، رائع الخطو ،  يموج بإشارات كونية يجتني القرب من مجلسها ، يلوح بالهدوء والزهو ، يحاور شجيرات بساتين الليمون ، يصغي إلى الرياحين العطره  تنطق  بالآيات من كتاب السّر و الوعد و ومن أصوات الناي الرخيم  .. فمع مطلع كلّ مساء و في اللحظة  نفسها تسمع كلاماً قادماً من عنعنات ليلٍ داجٍ في نداه جلا مرآة لذاته  ، تَتَفتح منه رعشةً من رحاب الخلود .. الليل يتسلل بلطف، في لطفٍ يتسلل أرق من النسيم ، يملأ الغرفة شآبيب لحونٍ من وراء الغيب منسابة تلامس اصابعها الأنيقة و تروم منها نظرة  …

2

جالسةٌ تنتظر إشارة النجمة المقدسية وهي  تسري في أمان بنور نيّر ينير جوانب الظّلمة في الأشياء السمحة  .. جالسةٌ بقلقٍ جميل فيه رهبة ، ومن وراء هوان الصمت سمعتْ كلاماً يروي من غيب السريرة تفاصيل الأضواء الخافتة على بقايا وجهِ المدينة المُعطر.

3

الأرج العطر يسبح في الغرفة ، عندها أحسّتْ بعناد قسوة مدينتها أثناء أستقبالها لرذاذ المطر السارح في الليلٍ الدامسٍ ، رذاذٌ يروي كروم السفوح عند أعالي التلال المترعة بالظلام المضئ  ، في ليل أزاح طيفهُ ستائر وجه القبس البعيد قادماً يجتاح موج الدجى يشق قوس الأفق يغني و تغني لهواها النجوم تحت سحر الدفوف ؛ ومن بعيد نجمة هبتْ ترسل كلّ ضوءها البهي في الفضاء الرحب و في منازال الهدوء ومواعضه القدسية ..  جلستْ  في صمتٍ تنتشي من صمته الصامت ما تخفيه الأرواح داخل وكنات المساء بعد طيوف الغروب .. ظلت جالسة تنشر في الغرفة شذاها .

4

جالسة في فرحٍ طفولي في صمتٍ ، في التفكيرفي خلق الكون وفي سكونه الهادي ، تستمع لموسيقى كلاسيكية رائقة لـ ” راخمانوف” مُبللة بالثلج الزاهر وماء السّواقي ، تستمع لموسيقى يشعُ منها بقوة خفية ومض الحياة وسرها البهي و من كلّ ناحية تنثُّ فيها صولة الشجن  .. جالسة تقرأ ، وتحت وشاح الليل الملثم بالظلام و ضؤ قنديل زيت أنيس مُنير بالقرب منها تقرأ رواية ” الشيخ والبحر”  ، شدّها عناد الشيخ في قلب البحرالعميق مراقباً الظلمة في الهواء المالح وتغلبه الأكيد على اليأس دون أنْ يرفع لواءً للبطولة المزوّرة أو يخاف من الردى و المخاطر أو تخيفه الوحدة أو يستسلم لليأس ، تَعجبت للقدرته الخارقة على الصبر والثبات والأصرار ، وعرفت أنّه لم يهزم معنوياً ، ولم تُرهقه الشيخوخة  ، يكفيه لمعة الذكاء في عينيه ، عرفتْ ذلك بوضوح من كلامه المتفائل النابع من قاع البحر و العتمة ” من الممكن أنْ ينهك الإنسان ولكن لا يجب أنْ يهزم أبداً ” .

5

إمتلأ عقلها بالشك والشرود في لحظة من الوهم الغريب الذي جال في ذهنها في مخبأ السر المكنون حتى احتدمت خواطر برأسها كزفرات ريح تطفوكما يطفو الحلم ويختفي في ارحام السنين الهائجة   .. وهمٌ يختفي ويزحف بخطى مبهورة في الظلام الدامس بحثاً عن منابت الزهور في حقل مهجور كأنّها سحابة تنقشع من الغيم فبدا لها الوهم وهماً ولم يكن سوى كابوس من كوابيس الدنيا الذي من شأنه أنْ يَسْعَدْ بأنْ يطفي وهج الشمس …

6

لم تسأم مطلقاً ، تابعتْ تقرأ في شغفٍ تلك المشاهد الكثيفة للشيخ يطوي مفازات الصمود مفازة تلو الأخرى في وجه سمك القرش وفكّه المفترس .. ترى بكل وضوح عجوزاً ظلّ واقفاً لا ينحني يسمع خفقان قلبه يدق بعنف و كبرياء ..  قرأت سطور وسطور أخرى من رحلة ” الشيخ والبحر ” وعتماتها الشاحبة و غدر الزمان و لعنة أسماك القرش و ارتجاف برودة البحر.. شدّها أكثر حديث الشيخ لنفسه وقد بدا مُتْعَباً : ” لقد أصبحت مشوش التفكير” ، قرأت بتركيز أعظم : ” احتفظ بذهنك صافياً و أعرف كيف تتألم كإنسان أم كسمكة ” ، أحست بأنه أخذ نفساً عميقاً وأنّه وحيد ها هنا في مواجهة الفك المفترس وجهاً لوجه ، لم يرتمِ لليأس مُطلقاً ، يُقاوم الظلام الجهم ، يشعر بهدوء عميق كعمق البحر ،   بينما كانت تنسج بالقرب من بيتها الرياح تمائمَ الأنغام من الموسيقى الكلاسكية  وهي جالسة مع ” الشيخ و البحر” وفي عينيها نداءٌ و هتاف و رغبة في تقبيل جبهة الشيخ …

7

ربتت ابتسامة سحرية على ثغرها ،ومن دفء عينيها أشرقتْ سحائب المساء تسترحم مسارب الأحلام  ، أحستْ برذاذ بحر الراوية يرهف وجهها و أحست بفكّ قرشٍ مفترس ينهش نهشاً غاضباً لحم السمكة المربوطة إلى جانب المركب والشيخ مازال على جَلَدِهَ صامداً  ” مدركاً بأنّ هذه الحرب ضد أسماك القرش عديمة الجدوى ”  ، حتماً خاسرة ،غير أنها أحست بالشيخ وهو يراقب أسماك القرش وهي تطوف حول مركبه أنّها ” تتجه إلى المركب تسبح جنبا إلى جنب ” ، مازال يراقبها مُنصتاً إلى نهش لحم صيدها ، ومع حمّى القراءة للرواية أحست بوضع الشيخ وحيداً وليس من شيْ أمامه إلا الأماني الحائرة وأنّ ليس ” أمامه سوى البحر والسماء”  وصيد ظفر به العجوز تنهشهه ذئاب البحر بدون رحمة .. وأحست مع ذلك باِصرار العجوز العجيب و صبره في حربه ضد الفك العظيم ، أحست بأنّ رياح البحر مشبعة بالرماح المكسورة.

8

منذ أنْ أقبل الليل ومدينتها تنام في رغدً تحت فيافي الرياح ، ومع كل ريح من الرياح تظهر السماء مبهورة بالنجوم الصغيرة ، فضاء الأنترنت المُبعثر في ضجيج يعوي في فراغ الليل العنيد يملأ منحدرات الظلام  … تسبح في متاهات المزن والغمام الثقيل ولا زالت تغطي سحائبها طول النهار و الليل ولم ينسدل السّتأر بعد ولم يسقط ، كل بيتٍ تحشوه الفضائيات بالجهل و حكايات الأماني الجافلة المُحملة بالفناء الزاحف تحكي قصصاً عن احوال الزمان و أهله كأنها تطارد قطرة ماء في الصحراء  . أحست بهذا الليل في غفلةٍ وما عرفت من تنادي إذ أحست أنّها لم تعُد تملك صوتها.

9

 أحسّت بأنّ كل المدينة تسبح في بحارٍ من بريق الوهم وسقوط المسافات ، وثب أمامها الزمن من دون استئذانٍ كزحوف الثلج ونتف الفراغ ، وحراب الحرب الصّديئة  ، وثب الزمان و زرع بينها وبين الفراغ نبع من الماء النقي أنهمر في كرمٍ على كروم الوادي المسافرللمجهول والقادم من المجهول وعلى الدوام مُسافراً مثلما ايقاع المطر يتحدى الزّمن المخذول …

10

 اِنهمرت الأسئلة في ذهنها و أنهمر سراب السؤال من أسرار الدّهور الأزلية و الحكايا المُستهامة كأن العالم الواسع من حولها يضيق   ،  تأملت فراغاً أمامها ما تأملته من قبل ولا رأته في حلم  ، تراءات لها ضواحي المدينة ناعسةً تركض في مكانها ولم ترحل وتبرح شبراً واحداً ، تراءات لها تجاويف السنين تحفو نحو كرّ الليل والنهار والدهر الأثيم  ، تحدث نفسها إلى نفسها بحرارة عسى أنْ توقظُ هذا العالم الغافي الساهي ، وتسأل عالم الغيوب عن قصة الوجود و كيف هجرلحن ” راخمانوف” من سمعها نغم الأوتار المُحملة بآمال عريضة  ؟  تُرى أيّ فراغٍ أجوفٍ يقودك يا هذه المدينة الزاهرة ؟ اضافت بنبرة حادة :  أيّ فراغ هذا الذي لا ينجلي غيمهُ الشريد ، القادم من نفس جوف الفراغ الباهت المنكود و العبث الضائع؟ .. خرجت من مصيدة الأوهام و صوت الذهول ، ودخلت في عالم ” الشيخ والبحر” ، تتابع القراءة ،و تصغي لهمس الليل المُتجدد. 

مقالات ذات علاقة

صورة

أسماء مصطفى

الجرو الصغير

فهيمة الشريف

يا مسافر وحدك وفايتني

المشرف العام

اترك تعليق