خديجة رفيدة
“يا مسافر وحدك وفايتني”
بدأت طقوس العشية لديّ، يرفع المؤذن في الجامع الذي يقع خلف بيتي أذان العصر فأترك سريري، أتوضأ، أصلي، ثم أذهب للمطبخ، أضع برّاد الشاي على النار، أنتظر الماء ليغلي، ثم أضع “الحشيشة” الحمراء، وأنتظر قليلا.
أجهز صفرة العشية كما كان يسميها، الخبز الذي غالبا ما أعده بنفسي في الوقت الذي أطبخ فيه الغذاء، صحن الجبنة، صحن الزيتون، الطماطم، الهريسة العربية من تحت يدي، ورشة الزعتر الحلبي مع زيت الزيتون، كوب الشاي وأعواد النعناع المضافة أخيرا.
الغاز ضعيف، يبدو أن البرميل سيفرغ، يجب أن أتصل بأحد أولاد أختي كي يأتي لي ببرميل مليان، لم أكن أحتاج أحدا حين كان هنا، هذه هي الدنيا، شغلت المذياع كي يخفف عليّ وطأة انتظار الشاي على الغاز الضعيف كالشمعة، لو كان هنا لما احتجت للمذياع، لكان برفقتي وأنا أعد الشاي، يجلس على الكرسي أمام طاولة المطبخ، ويتحدث لي، يخبرني عن يومه كيف مضى، أو يحكي لي مناما زاره في القيلولة، لو كان هنا.
الأخبار على المحطة الأولى، ما عادت الأخبار تهمني كثيرا، لا شيء لي فيها، كنت أتابع الأخبار لأجله تقريبا، أدعو الله ألا تقوم حرب كي لا يذهب إليها، وأدعو الله ألا تتأزم السيولة كي يقدر على إتمام مشاريعه، وأدعو الله بكل شيء في هذه البلاد، لأجله هو.
البرنامج الرياضي على المحطة الثانية، كنت أهتم قليلا بالرياضة، أنتظر أن أسمع أن فريقه المفضل كسب مباراة ما كي أعد له طبقا من الكعك يعزم أصحابه عليه احتفالا، أو ألتزم الصمت قدر الإمكان إن سمعت أن فريقه خسر، أيضا كنت أخبئ طلباتي العصية عليه حتى يفوز المنتخب، فيبدو من فرط بهجته الطلب العصي سهلا، لكنه وليس هنا، كل الأشياء عصية.
البرنامج الثقافي على المحطة الثالثة، ما الذي يعنيني في الثقافة والكتب والمسرح بعده، بالكاد أفك الحرف، لكنه هو الذي كان يعنيني، هو الذي أستمع لأجله هذه البرامج كي أحفظ شيئا منها لأخبره إياه، أقول له مرة أن مسرحيته المفضلة ستعرض في الأيام القادمة في قاعة الشهداء فيرد عليّ بمشهد منها، أو أن معرضا للكتب قريبا سيقام ليحضره ويأتي محملا بكتب كثيرة فأقول له لو وفرت مالك، أو أنقل له موعدا لأصبوحة شعرية ستقام في كلية ما بعد يومين لربما يحضرها ويأتيني فرحا يردد بيتين على مسامعي، لكنني وهو بعيد، ما الذي يعنيني بالشعر والمسرح والكتب؟ كل محافل المدينة ليست لي.
برنامج يتراوح بين أن يكون اجتماعيا ودينيا على المحطة الرابعة، أناس يتصلون ويسألون شيخا أو واعظا، تشاجرنا مع فلان قبل عام ولا سبيل للصلح فما رأيك؟ تأخرت عن قضاء الصلاة في سفر فما حكم ذلك؟ نصب عليّ أخي وأكل حقي في الميراث فماذا تقول له؟ لو كان هنا، لو كان يجلس على كرسيه أمام الطاولة لتركت هذه المحطة، لتناقشنا معا، وتجادلنا، لقال لي كيف يأخذ شخص ما حق شخص آخر؟ لو كان هنا لاستنكر بعض الأسئلة التي تُسأل، ولأجابني على البعض الآخر.
صوت مذيعة لطيف على المحطة الخامسة، تملي على مستمعيها طبقا تصفه بأنه لذيذ، طبق يحتوي على لحم الدجاج الذي يحبه، لو كان هنا لحفظته عن ظهر قلب، أو سجلته بواسطة هاتفي كي أرجع له، لو كان هنا لانتظرت من المذيعة أن تملي علينا طريقة الطبق الحلو، كعكة جديدة أدلله بها في نهاية دوام الإثنين الطويل، لكنه ليس هنا، والأطباق ما عادت تعني لي إلا عادة أو حاجة.
تشتغل الأغاني على المحطة السادسة، والغاز انطفأ ولم يغلي الشاي غلوته الأخيرة، يقول محمد عبد الوهاب: “يا مسافر وحدك وفايتني” يا فايتني، المكالمات لا تكفي، لقد سافر، وحيدي، الولد الذي ما أوقفت ولادة البنات حتى تحصلت عليه، جاءني بعد ست بنات، تزوجن كلهن، وبقيت أنا وهو بعد وفاة والده، بقينا نحن الاثنين، أنا وهو، كانت حاجتي منذ زواجي ولد، أنا الذي وُلدت ولا أخوة ذكور لدي، كنت أرى حسرة أمي كلما تزوجت بنت من بناتها، وحين تزوجت أنا – آخر بناتها – باتت تشهق، تمضي وتقول بقيت وحدي، صرخت بأعلى صوتها “يا ربي لماذا لم تجعلها ولدا، يا ربي لماذا أودع العرائس ولا أستقبلها”.
بقي هذا المشهد أمام عينيّ طوال سنيني، وكان دعائي دائما “اللهم ارزقني البنين” وحين ولدت بنتي الأولى؛ قلت لا بأس، بنت تعينني على إخوانها، وحين جاءت الثانية قلت تؤنس إخوتها، وحين جاءت الثالثة قلت ثلاثة خير وبركة، لكن في الرابعة والخامسة والسادسة، بات دعائي ملحا: “يا رب، ولد واحد يبقى معي”.
حتى جاء، جاء هو، البشرى، السند، والأنس، كان محور كوننا الذي ندور حوله، لم أسمح له بالابتعاد عني، كنت أنتظر متى يتزوج، ويؤنسني بزوجته، ولم أسمح لأخواته أن يعتدن على زيارتي بشكل يومي أو ما شابه، زيارة كل أسبوع تكفي، لكل واحدة بيتها، أما هو فهذا بيته.
كان كل شيء يمضي كما هو مخطط له، هو الحنان، القوة، السند لي ولهن، كل شيء رغم سوء الأحوال في البلد يمضي في بيتنا بفضل الله وحسّه هو، لكنه سافر.
إحدى بناتي تزوجت في طرابلس، وحين ولدت ابنها الثاني ذهبنا في زيارة طويلة إليها، أقصد أنا وهو، وجدت ابنتي مريضة وبحاجتي، فبقيت معها، أما هو فقد ركب سيارته ومضى إلى بيتنا، لكنه لم يصل.
خُطف من الطريق الواصل بين طرابلس ومصراته، اتصل بنا الخاطفون يطلبون فدية، دفعتُ أنا وبناتي كل ما بحوزتنا من مال وذهب، فقط ليخرج، خرج بعد أسبوعين وثلاثة أيام، لكنه ليس هو، كل شيء تغير، حياتنا قبل اختطافه ليست هي حياتنا بعده.
جاءني بعد عودته بأسبوعين وثلاثة أيام أيضا، حاملا بيده ورقة بها أختام وكلاما لا أعرف كيف أقرؤه، وقال لي كلمة واحدة: “سأهاجر”، تركها على الطاولة وذهب، كان يبكي، وبكيت أيضا، “دي عينيا دموعها، دموعها بتتكلم”.
يا مسافر وحدك، وفايتني، ليه تبعد عني وتشغلني.