الصابري عرجون الفل:
كنت أنصت للغياطة محتارا في عرجون الفل الذي لم أشاهده مرة في الصابري حيث أقطن. كان “بوسعدية” يخرج قدامى من “زرئب العبيد” متقلدا العظام والعلب الفارغة ولم يكن ثمة فل؛ حتى زهرة واحدة.
ذهب الصبا، وردحا من الشباب دون فل ولا يحزنون، لكن في ذلك الصغر كان الصابري الحي الشعبي، في بنغازي الناهضة من ركام الحرب الثانية مهدودة الحيل والحال، الصابري يفاخر البركة وحى البلاد بفقره الذي يزدهر والخراب اليانع. وسيكتب الصادق النيهوم عريضة بسم سكان الصابري المعترضين على سكان بنغازي الآخرين الذين يخترقون الشارع الرئيسي لحيهم حاملين جثث مواتاهم فحسب؛ حيث يقع الصابري بين جامع الموتى وجبانة سيدي عبيد، النيهوم سكن الصابري وطاردته العفاريت بين “حلاليقه؛ أكوخ الزنك” في شوارعه المتربة والضيقة.
وفي ذاك الصبا غير المأمون سكنت شارع الدرناوي الذي يحده جهة البحر زرائب العبيد حيث الدنقة والغيطة والرقص فنون الزنوج القاطنين الزرائب، ويصب هذا الشارع في سبخة الصابري قبالة ” كوشة الجير ” لسي على زغبية؛ من أولاده محمد زغبية الناقد والكاتب والمترجم والمثقف المتميز الذي توفى مبكرا ولم تجمع مقالاته بعد. وخالد زغبية شاعر أغنية الميلاد؛ الذي بشر بالحداثة الشعرية من خلال كتابة قصيدة التفعيلة / القصيدة الرومانتيكية الثورية التي احتفت بالموروث الشعبي في أغنية الميلاد، والذي منعت له في ستينات القرن المنصرم قصيدة وقدمت للمحاكمة باعتبارها تمس تابو من التابوات. وإبراهيم زغبية الذي كتب في مقتبل عمره بعض المقالات وشارك بفاعلية في المنشط الثقافي السياسي وشارك في بعض مؤسسات المجتمع المدني.. وغيرهم مما ساهم في الإدارة الليبية. ذلكم حصل بين الأربعينات والسبعينات من القرن العشريني المنصرم.
هكذا كنت:
والصديقان الشاعر المتقاعد محمود العرفي والمخرج المسرحي داوود الحوتي نسكن ذلكم الشارع: يخرج على زغبية متأنقا بملبسه الليبي، متكأ على عصى جميلة كثيرا ما جزرت مشغباتنا بتؤدة وحنان، حينا يدخل دكان والدي ليتشاغبا حول شؤون السياسة الناصرية، حينا يدخل سوق دكاكين حميد حيث الجزار موسى سلامة – والد الكاتب المسرحي على الفلاح – في محل سى موسى سلامة كتب لسلامة موسى وروايات نجيب محفوظ وغيرها مما يطالعه هذا الجزار.
يطل من بعيد رجل مربوع القامة متوسط العمر؛ يضع على كتفيه “جاكتة” شتاء صيفا، كنا نهابه ففي عرفنا أنه الفيلسوف؛ كل ممسوس بالفلسفة ممسوس !، هو محمد زغبية الذي لن أعرف عنه في مقتبل العمر غير ذكرى الطفولة والصبا هذه، في غبش الذاكرة سمارة داكنة ومحيا صارم وجدية عابثة، ولم يكن لخالد زغبية محط في معارج ذاكرتي في شارعنا في حي الصابري عرجون الفل كما يردد الغياطة وسيغنى محمد حسن؛ الصابري المنشأ. وفي تيه ما بعد الحرب تاه محمد زغبية في فيافي العقل الجموح، العقل الذي تشده عقول وعقود عن آفاقه التي لا يحدها حد، في فيافي هكذا غاص وأقرانه عبد العظيم المهدي الحداد، حسن مخلوف، الراحل محمد حمى، الناجى مصطفي الشيباني.
كأن الشغف بالتذكر من دواع التبطل؛ فإن محمد زغبية لم يدق أبواب مقتبل العمر المشرعة لكنه دك أبواب العقد الخامس، وقد قعدت متقاعدا متقرفصا أفتش في ثنايا دكانة الأمس وقيل وردد والدي أن صاحب الدكان إن أفلس يفتش سجل الديون.
كأن الشغف بالتذكر لدفع ديون تراكمت ووجب سدادها قبل أن يغرب العمر أو هكذا؛ فمن سنوات أخذت في تقليب ما اصفر من ورق خريف العمر، هذه مجلة الضياء التي أصدرها الصحفي والمؤرخ عمر الأشهب، تلك مجلة النور للصحفي عقيلة بالعون التي أصدرها بعد إغلاق مجلة عمر المختار ومجلة ليبيا مما أصدرت جمعية عمر المختار برئاسة مصطفي بن عامر وقد كان محمد الصابري رئيس تحرير جريدتها الوطن.
قلبت المدونة:
وما سرقت الصحف من الزمن فأبقت؛ وجدت محمد زغبية كاتبا مثقفا بالايطالية والعربية قدم وعرف وحلل نظرة فيلسوف الجمالية الايطالي ” كروتشة ” في العقد الرابع من القرن المنصرم، مبينا أهمية مفهوم الجمالية وهذه الفلسفة التي تحلل علم الجمال وتبوبه مكانة أولى في الكتابة الإبداعية؛ باعتبار أن الإبداع عمل جمالي محض وأن محتواه من مقتضى الحال؛ الكتابة الشعرية كتابة جمالية لا تستهدف هدفا فذاتها هدفا. لذلك شارك محمد زغبية في مناقشة كانت حامية الوطيس حول مفهوم الفن والشعار الذي غطى المرحلة بمعطفه: الفن للفن أم الفن للحياة، وباعتباره يكن لفلسفة الجمال بمكمن وسابر لأغوار مفاهيمها فإن الفن عنده فن أولا وأخيرا، الفن قبل الأخلاق حيث الأخلاق أيديولوجيا فهم الحياة ورؤية لسلك شعابها فيما الفن كما الصرخة الأولى بريئة من كل معنى قبلي. واهتم لذلك محمد زغبية بنظرية الفن قبل وبعد اهتمامه بنظرية للحياة؛ كما سوف يتغنى شعراء الحداثة الأولى كالشاعر خالد زغبية أخيه، وابن حيه أو من كنت أسمع صوته صبيا في الراديو ومن طرق ذهني الحديث عنه وهو يتردد على أخته في الصابري بشارع الدرناوي، الشاعر محمد المطامطي والمذيع، الذي ترك الشعر للسياسة؛ السياسة التي لم تعطيه ما أعطاه الشعر ما أعطاه عرجون الفل، خالد ومحمد هذان من كتبا قصيدة الفن للحياة وان لم يعطيا الظهر لنظرة محمد زغبية الجمالية.
لم يكتب:
أو تحديدا لم ينشر الكثير كان ضائعا في متاهة الشفاهي وعلى عجل، لم أجد له فيما قلبت من ورقات الزمان غير هذا القليل لكنه من القليل الذي يكفى؛ فما كتب في نظرية الفن كان من جهة بحث دءوب ومكثف وينبئ عن مطلع عارف شغوف حر.
عنده أطروحة الفن ليست بحاجة لأي اعتبارات خارجية ومداهنة، الفن فوق الأخلاق حيث الأخلاق أعراف وتقاليد ومعارف سالفة، الفن خليق بأخلاقه فالجمال ينبوع الذات الذائقة التي ليست بحاجة من يقننها ويحوزها ويقولبها وكأن الفن عنده رديف الذات الحرة. وقراءة شغل محمد زغبية القليل ستبين المصادر والمرجعية لنظرة خليفة التليسي الجمالية من ناحية مصادرها غير العربية؛ فبينهما وشائج التي قد تكون غير مباشرة، لكن تمكنهما معا من اللغة الايطالية واحتكاكهما بالثقافة الايطالية يجعلا منهما يعبان من نبع صاف تتعدد وتتنوع مصابه لكن يشف عن مشتركاته.
إن محمد زغبية كما غيره لا يستحق منا هذا الجفاء، ونستحق بنسيانه هذا الخسران الذي وجب أن نتداركه قبل فوات الأوان؛ يا أصدقائه واخوته وأبنائهم ومحبيه، يا كل من عنده الوطن وثقافة الوطن عزيزين اجمعوا واصدروا على حسابكم الخاص هذا القليل الذي كتب.