المقالة

دون كيشوت.. في مقهى..

الشاعر الليبي الراحل .. الجيلاني طريبشان.
الشاعر الليبي الراحل .. الجيلاني طريبشان.

“إيها السادة السفهاء.. أيها السفراء.. أيها المرتشون، الفاسدون، النائمون على سُرر الفقراء منتهكي البراءة.. مغتصبي الطفولة.. أيها المرتشون.. لكم ساعة قد تحين قريبا.. “…

هذا مقطع من قصيدة (مقاطع ما قبل الرحيل) فيها إشارة إلى صالة الشاي الهندي – مقهى في القاهرة.. نشرته له السقيفة الليبية التي نومض فيها عن الأدب.. كتبه الشاعر الراحل جيلاني طريبشان في هجاء سفراء ليبيا، وهو شهادته من واقع مكابدته مغترباً حطت به المنافي الأوروبية في ثمانينات القرن الـ 20 في سفاراتهم سيئة السمعة محتاجاً منهم لتجديد جواز سفر، أو وثيقة، أو رسالة إلى مكتب معاملات الأجانب في البلد المغترب تفيده بأنه مواطن ليبي.. بيته الشعري نافد على من يملؤون مشهد السلطة من عام 2011 إلى عام 2022 وما بعده.

لنقلب صفحة الكأبة التي ارتبطت بالشاعر الغريب في وطنه، ونفتح صفحة المباهج على المقطع: “لنا وطنا حين نبغي نفجرهُ في قصيدة.. ولنا أوبة إلى المقاهي الوضيئة”.. في بدايتي حباً في الشعر الليبي رأيت صورة الشاعر -بورتريه هو راسمه لكونه معلم رسم- مرفوقة بمقالته المسلسلة “تحت المظلة“ في صحيفة الأسبوع الثقافي. رؤيته الثانية كانت جليساً دائما شتاء وصيفاً في مقهى زرياب “الكورسو” سابقاً في شارع الاستقلال لمالكه صاحبه وصديق الأدباء القارئ النهم الذي لم يكتب/ نبيل القماطي.. ومقهى زرياب الوحيد الذي يشير إلى أسمه الجيلاني صراحة في قصيدة “التحديق اليومي عبر مرايا الفصول“ كتبت في زرياب عام 1977 المؤسف للشاعر لكتاب جيله ولنا نحن الكتاب الشباب أنه تواقتت حملة القبض على كتاب صحيفة الأسبوع الثقافي الشباب وسجنهم – ديسمبر 1978.. وبعد فترة لحقهم الجيلاني لمدة محدودة.. مع غروب المقاهي تمثلاً بالنشيد الثوري “مكانك موش في القهوة نوض.. مكانك في الميدان“.

المقهى أيقونة متألقة في شعر الجيلاني ليس دائماُ بالبهجة والمتعة والمسامرة بل أيضاً بالقلق وبالخوف والتوجس كهذا البيت في ديوانه الأول “رؤية في ممر عام 1974”.. “وعيون الجالس خلفي.. تثقب ظهري.. تكتب اسمي فوق بطاقات الحرس الوطني“…

بل يكون المقهى ساحة لمعاركه مع الأوهام والأشباح “طواحين الهواء” كما هو عنوان قصيدته “دون كيشوت.. في المقهى“.. بعد أن صححت تأشيرتي لاستكمال دراستي العليا في الفلسفة، وقبل أن أسافر ثانية إلى ألمانيا مغموراً بالتفاؤل بعودة الجيلاني من الغربة، متجاهلاً إحباطه الذي وثقه هذا المقطع “عرّجت أبحث عن خان (السري)/ علّ لي دارةً أبتنيها/ علّ لي أخوةً لم يزل بعضهم يحملُ طيب البداوة.. خفقة القلب..، بَسماتِ الصباحِ بالورد ندية/ دارتي/ ها هي الآن دونها مدّعي الثورية! “.

قبيل إيام من سفري التقيت الجيلاني في مقهى الفندق الكبير اسمه السابق القرندهوتيل.. شكرني على تقديمي له في أمسية الاحتفاء بعودته من مغتربه التي نظمتها على شرفه (جمعية الثقافة والبيئة) عام 1993 بمدينة صبراتة التاريخية، وثمن كلمتي وتمحوره حول استعارة “المرأة القدرية“ في شعره.. ارتجلتها بالمسامرة المسائية التي التأمت في المصيف السياحي بعد جلسة التكريم الأدبية.

سافرت ثم عدت بعد سنوات ليفاجئني الكاتب إبراهيم حميدان بديوانه “ابتهال إلى السيدة ن” هدية لي بخط يد الجيلاني تركه أمانة عنده بعد ما علم منه إني سافرت. سألت عنه ولكن ما من مجيب. كان وقتها الجيلاني انتقل إلى الرفيق الأعلى في واحد من مساجد بلدته الرجبان العتيقة، رفع رأسه نحو السماء، وعاد ودفنه بين طيتي مصحف بين يديه، وهو يقول: «يا إلهي قليلاً من الراحة»!

مقالات ذات علاقة

أغنية ”التقينا.. لم يعُد…“

نورالدين خليفة النمر

في حب الأرشيف

محمد الترهوني

جرة قلم

المشرف العام

اترك تعليق