الهادي محمد حقيق
لا زلت إلى هذه اللحظة أتذوّق في أذنيّ بلذة عجيبة صوت “ماجيستي” وهو يخطب في المحاربين فيما يرتفع صدره العاري الموسّم بالعضلات المفتولة ويهبط.. كان صوته عميقا ومؤثرا وموسيقيا.. وكانت مكبّرات الصوت السينمائية الحديثة آنذاك هي صاحبة الحيلة في التأثير الساحر على مسامعي والأخذ بمجامع لبّي وتفكيري..
أذكر المرّة الأولى التي قصدت فيها السينما مع بعض صحبي.. كانت مغامرة لا تُنسى لأطفال في السادسة أو السابعة من أعمارهم.. بالطبع لم تكن معنا نقود على الإطلاق.. ولكن الشائعات بين أطفال الشارع تؤكد أن مخاتلة الواقف بباب صالة السينما أمرا سهلا..
كانت وجهتنا “الإي بي تي” القريبة من زنقتنا.. “زنقة كشمير” بميزران.. وبالفعل وبمجرد اختراقنا للسوق كانت صالة السينما تلوح أمامنا وقد تزيّنت بصور الأفلام المختلفة ومن بينها صورة فيلم ذاك اليوم لماجيستي وهو يصارع المحاربين والوحوش على حد سواء بعضلاته القويّة وسيفه القصير..
كان أسلوب دخول الصغار المتّبع يتمّ وفق الآتي: نقف على أعتاب صالة السينما ثلاثة أرباع زمن الفيلم نراقب الحاج المشرف على الباب فيما يقوم هو بالتقدّم إلينا لمرتين أو ثلاثة في محاولة لإبعادنا، من بعد ذلك نبدأ في رسم تعابير “التصخيف” والاستجداء على وجوهنا مع التمتمة ببعض الكذب الطفولي الحلال حول نقودنا التي سقطت منّا في الطريق.. وكيف أننا نسكن على مقربة من السينما وأن أهلنا مطمئنون لمقدمنا هنا.. إلى غير ذلك من محاولات الإقناع..
ومع قرب نهاية عرض الفيلم.. ورغبة منه في تمكين الصغار من الفرجة على المشاهد الأخيرة يتظاهر عمي الحاج صاحب الباب بالذهب إلى الحمام أو إحدى الحجرات فندخل نحن بسرعة الريح.. ليستقبلنا ظلام منير.. ورائحة مميزة.. وأصوات تجول بحرية مطلقة كافة أركان صالة العجائب.. السينما..
بعد لحظات من التوقّف والجمود والانشداه بحجم الشاشة العملاقة ، مقارنة بالتلفزيون الذي أعرفه في بيتنا.. عاد عقلي للتفكير.. لما لا أجلس على كرسي كالجالسين ؟.. كان الظلام يسود الصالة ولا تخفّف من وطأته سوى تلك اللقطات النهارية المنيرة التي تنبعث من الشاشة الكبيرة..
اعتقدت ومن خلال نور لقطة بأنني قد لمحت كرسيا خاليا في منتصف إحدى الصفوف.. فسارعت على الفور إلى بداية الصفّ.. ودخلت بصعوبة من أمام الجالسين الذين كانوا يهمهمون بضيق وهم بحاولون متابعة ما يحدث على الشاشة عن يميني ويساري مخافة أن تفوتهم لقطة من لقطات نهاية الفيلم..
عند وصولي منتصف الصفّ تبيّن لي أن الكرسي الخالي هو في الحقيقة مكسور ولا يمكن استخدامه للجلوس.. ولكن أمامه مباشرة في الصفّ التالي كان هناك كرسي خال.. ولكن هل علي أن أرجع إلى الممرّ لدخول الصف الصحيح.. قلت لنفسي لربما سبقني أحدهم إلى الكرسي.. مشكلة !!.. وقفت حائرا لبرهة فزادت الهمهمات من حولي حتى باتت أصواتا غاضبة.. فتشجعت وقمت برفع رجلي لأتخطّى للكرسي الخالي في الصفّ اللاحق..
لم أكن أعرف أن كراسي السينما تعود للوضع العمودي عندما تكون خالية.. ومن فزعي من تعليقات الجالسين الغاضبة وارتباكي.. أدخلت برجلي في الفراغ ما بين لوحة جلوس الكرسي ومسنده.. وهكذا.. وبمجرّد أن استندت بيدي على لوحة جلوس الكرسي انزلقت سريعا للأسفل لتطبق مع المسند على ساقي.. ولأصرخ أنا بملء فمي..
المشكلة أنه لم يكن ثمة مجال للحفاظ على توازني إلاّ بمزيد من الاستناد على لوحة الجلوس وبالتالي المزيد من الإطباق على ساقي الصغيرة.. عاودت الصراخ.. فهبّ أحد الجالسين خلفي في ضيق ورفعني في الهواء لينزل قدمي في المكان الصحيح أمام الكرسي..
جلست موجوعا وأنا أتحسّس ساقي من الألم ولكن دون أن أرفع عينيّ عن الشاشة.. ولعلي.. ومنذ ذاك الوقت.. لم أفعل!!..