تجارب

بَرَّاكةٌ خَيرٌ مِن وِزَارَة!!!

من أعمال التشكيلي حسن أبوعزة
من أعمال التشكيلي حسن أبوعزة

في شارع ممتد كعقد جميل فريد نظمت حباته، أو كنهر عذب نمت على ضفتيه أطيب الأزاهير الفواحة، كنا واسطته، وأوله عائلة زريبة الكرام وهم أكثر سكانه وبهم عرف، ثم عائلة الساعدي، والحاراتي، والزيتوني، والناصري، وشطيبة، والأزرق، وفضل، وعقيل، والمجربي، وجبران، وهروس، والغزيوي، والزائدي، والولوال، والطبيب، وبن حسين، والدالي، والشريف، وكشلوط، وامبارك، والشيب، وأبو حامد، والحمروني، ومختتمه عائلة النعمي الأخيار>

في وسط هذا المحيط الجميل المتناغم، رسمت معالم الطفولة البريئة، وحافظت على جمال ذلك العقد الفريد، حيث ولدت في وسط أسرة محافظة، قوامها العلم والأخلاق، والتقاليد والأعراف الأصيلة، قَيِّمُ هذه الأسرة ورَبُّها، طيب الذكر والدي الغالي رحمه الله تعالى، وركيزته جدتي، وأمي وأخواتي، نأتمر بأمره، ونجتنب ما ينهى عنه، كان هو الوطن، يسكننا ونسكنه، لا نخرج عليه طوعا أو كرها، فالوطن قدسية مطلقة، تستوجب الحب والذوذ، والبر، والوفاء، والإخلاص، وبذل الغالي والنفيس، والسمع والطاعة، ولا يمكن الاستبداد به، أو الانسلاخ عنه لهوى زائل، أو لتحقيق ذات، فقد ألفت مثل أبناء جيلي هوايات طفولية متنوعة فيها روح التنافس، وما أكثر تلك الهوايات حينها!!، ولو كانت هناك بيئة صالحة تحتضن تلك الهوايات لخرج من ليبيا آلاف العباقرة، ولكن الدولة وقتئذ كانت في غيبوبة رسم ذاتها التي نجني ثمارها في وقتنا الحالي بكل أسف، فقد استفدنا من تلك المرحلة، سمة الاعتماد على النفس، دون التعدي على الوطن الذي هو الأب المبارك رحمه الله، ولعلنا حافظنا على المال العام بتدبير بعض الأمور والهوايات وكان أثمنها، وأمتعها إطلاقا، تربية الحمام، ويالها من هواية!!

فقد كنت ظلا لأخي الذي هو أكبر مني، أعينه في هذا المشروع الممتع، بداية من تكوين المكان الذي سيعيش فيه الحمام أو ما نسميه حينها (البراكة)، و تصفيف وترتيب البيت من الداخل، بعمل التمراد والتماريد وهي الصناديق، أو العكاك (الحكاك)، واختيار مكان الطعام، والشراب، ومن حسن حظنا أننا اتخذنا غرفة من البيت القديم الذي كان في تلك الأرض، بعد أن أفسدت علينا القطط بعض مشروعنا، لعدم إحكام البراكة الأولى، وبدأنا نجمع أنواعا مختلفة من الحمام، من الأدنى وهو المسبع، إلى الأكثر جاذبية وثمنا، من التونسي والنمساوي، والمصري، والزاجل، والكنقي، وغيرها مما لا يحصيها العد، وكنا بعد أن نكمل اختيار الأنواع المشكلة من الحمام، نضع لها السكر في الماء، حتى تألف المكان، ولعلها كانت نفس العادة عندما تقدم العروسة إلى بيت زوجها ليلة زفافها يطعمونها السكر، فيكون بعدها الألفة والاستقرار>

والحمام له قدرة عجيبة في التعرف على طريق العودة إلى المكان الذي ينشأ فيه، لا نعرف هل هو السكر؟ أو قدرة إلهية خصها الله لهذه المخلوقات المؤنسة؟، وقد تفاجأنا يوما من الأيام وبعد أشهر، أنا وأخي بعد عقد صفقة لبيع كل ما عندنا في تلك البراكة، وتفريغها، وفتح نوافذها، وأبوابها، بسماع أصوات هديل في المكان الذي كنا نربي فيه الحمام ولم نصدق ذلك، إلا بعد الاقتراب منه، فسمعت صوت ذكر كان هو سيد المكان قبل بيعه، نسميه (الفولي) للونه، وفعلا وجدنا كل ما بعناه قد رجع إلينا، ولم نبحث عن فقيه يفتينا في هذا الموضوع حينها لبراءتنا!!، وربما يصدق علينا القول: (اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، الْبَرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ).

 وما يميز تربية الحمام هو الشعور بالطمأنينة والسلام بوجودك قربه، رغم كثرة الساعات الطوال التي كنا نقضيها أمامه، والتي جنبتنا كثيرا من لغط ووزارة الشارع، وأخطاره، واختلاطه، وما يمكن أن يغير من سلوكنا الذي اعتدناه في التربية، فكنا نستحضر قدرة الله في خلقه، في تلك الأنواع، والألوان، والأحجام، وما كنا نزاوجه بين تلك الأنواع لتحسينها، وما كنا نقوم به في المؤاخاة بين الذكور الذين شبوا عن الطوق، ومتعة النظر في أطواق الحمام التي تلتهب جمالا وحسنا، كما ألهب ابن حزم الأدباء وشذاة الأدب بطوق حمامه، ولم يحل بيننا وبين ذلك الحسن والجمال إلا نداء الوطن، فنستجيب له طوعا وحبا، ونسمعه صوتنا بكل أدب: حاضر يا أبي ها نحن في الطريق، غفر الله له وأسكنه فسيح الجنان، ورد إلينا الوطن سليما معافى آمنا مستقرا سخاء رخاء.

15 / 5 /2020

مقالات ذات علاقة

الرسالة الأولى

المشرف العام

كتبي.. قرة العين لي

سكينة بن عامر

الهدية التي جعلتني كاتبا

سعيد العريبي

اترك تعليق