د. علي عاشور
يعد التفاعل الإلكتروني مع ما ينشره أصدقاء مواقع التواصل الاجتماعي -سواء كان بواسطة الإعجابات أو كتابة التعليقات حول الموضوع المنشور- أمرًا مهماً يعزز التواصل ويثري النقاشات، حيث تتيح تلك التعليقات للأفراد التعبير عن آرائهم وتبادل وجهات نظرهم، مما يسهم في بناء حوار متنوع ويدعم ثقافة المشاركة الفعالة، ليصبح المحتوى أكثر حيوية وتأثيرًا.
ولكن، ألا تلاحظون ظهور ما يمكن تسميته بظاهرة “التفاعل المشروط” على مواقع التواصل الاجتماعي؟ حيث يعتمد البعض مبدأ: (علق لي.. لأعلق لك، وإن لم تتفاعل، فلن أقدر منشوراتك). فقد انتشرت هذه التصرفات بشكل كبير في الآونة الأخيرة، ولم تعد تقتصر على المستخدمين العاديين، بل امتدت لتشمل من يصنفون ضمن النخب الأكاديمية والإعلامية والثقافية، أولئك الذين يفترض أن يكونوا قدوة في السلوكيات الراقية وفي الحفاظ على جودة التواصل. نجدهم اليوم يمارسون ذات النمط من المقايضات الإلكترونية، حيث يتوقف تقديرهم للمنشورات على تفاعل الآخرين معهم، حتى لو كانت تلك المنشورات ذات قيمة وأهمية.
كما أن هنا مثال آخر لهذا النوع من النفاق (النفاق الرقمي)؛ حيث يظهر بعض النخب على فيسبوك بمظهر الداعمين لبعضهم البعض من خلال التعليقات والإعجابات المتبادلة، لكن الواقع يكشف عن خلافات خفية ومعروفة بينهم،.
هذا التباين بين التفاعل الرقمي والمواقف الحقيقية يبرز نفاقاً اجتماعياً رقمياً حيث تكون العلاقات الافتراضية مليئة بالمجاملات، بينما الواقع يحمل تباعداً واختلافاً حقيقياً، مما يزيد من تشويش مفهوم التواصل ويجعله عرضة للانحدار نحو الشكليات، التي قد تجر البعض إلى الانحراف ونشر خطاب العنف، في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون هذه الفئات مثالاً على الاهتمام بالمحتوى والفكرة وقيمة الحوار، وليس على المقايضة الرقمية في التفاعل.
مثل هذه التصرفات من بعض النخب تتناقض مع دورهم الطبيعي في تعزيز القيم الفكرية والاجتماعية داخل مجتمعنا في هذا الوقت بالذات. فبدلاً من أن يكونوا قدوة للتفاعل الحر المبني على الاهتمام الصادق، يسهمون في خلق بيئة تفتقر إلى الصدق، مما يعزز ثقافة التفاعل الزائف والمجاملات الإلكترونية أو ما يمكن أن نسميه بالنفاق الرقمي.
بالإضافة إلى ذلك، فأن هذه المقايضات التفاعلية تقلل من مصداقية هؤلاء النخب في نظر المتابعين، وتدفعهم للتساؤل عن مدى التزامهم بالقيم التي ينادون بها، فلا يمكن للفكر أن يتطور، ولا للحوار أن يكون مؤثرًا، عندما يتحول إلى (خدمة متبادلة).
هذه الظاهرة تشوه الهدف من وجود النخب في الأساس، وتحول مواقع التواصل إلى منصات للمجاملات الفارغة، بدلاً من أن تكون فضاءً للتبادل الفكري والمعرفي العميق والنقد البناء. لذلك، فإن العودة إلى التواصل الصادق القائم على الاهتمام الحقيقي بالمحتوى، والتفاعل النابع من القناعة، هو ما سيعيد للنخب دورها الريادي في المجتمع، ويعيد إلى مواقع التواصل معناها الحقيقي بعيدًا عن المقايضات الإلكترونية والنفاق الرقمي.
الصباح | 31 أكتوبر 2024م