قصة

إن شانئك هو الأبتر

من أعمال التشكيلية الليبية فايزة الغناي
من أعمال التشكيلية الليبية فايزة الغناي

يحكي في قديم الأيام، أن عاتكة ترملت في بداية عمرها، ولم يكن لها أبناء من رحمها، لكن أبناء العائلة وبعض الجيران كانوا ينادوها ماما، من حبهم لها، وشدة حبها لهم، فهي لم تبخل عليهم بالحب وبالعطف وبالنصيحة، ولا بإغداق الهدايا في مناسباتهم العديدة، كانت لها أجندة متوسطة الحجم باللون البرتقال المائل للبني، وهي مدونة لأعياد ميلادهم وتواريخ ومحطات مهمة في حياة أولئك الأبناء.

كان أحدهم وهو الأقرب إلي قلبها، اسمه سراج، يقول لها: كان نعرف ماذا تكتبين هنا، في هذه المذكرة؟! هي كنز على بابا! كانت تبتسم وتنهره قائلة: لا تتدخل فيما لا يعنيك! هذا قانون العدل ودستور إذا اتبعته ستنجح في حياتك اذا عملت به .

أحبت الأبناء، لكنها رضت بالقدر لعله؛ خير لها، فقانون السماء وحكمة الله، لم يؤتها إلا القليل، فرضيت واستكانت روحها وغمرت نفسها بطمأنينة عجيبة.

ذات صيف، الحامل مجموعه رقمها المفضل تسعة، عندما كانت تؤدي مناسك العمرة، وزيارة شفيعنا محمد عليه أفضل صلاة وأزكى سلام، عند خروجها من ذلك الباب الكبير، ذو الارتفاع الملحوظ والزخرفة النافرة من صفائح نحاس براق، خرجت وهي تمسح بيديها وجهها، وقع بصرها على سيدة من أقصى الشرق، جميلة الملامح بوجه بشوش أمقع، مشرب بحمرة لافتة، قامت وتقدمت الردهة مبتسمة وسلمت عليها دون سابق معرفة، ردت عاتكة بأفضل سلام، وهي في حالة من الاستغراب والسعادة، ربما تبركت بها هذه السيدة، بكون عاتكة وصلت إلي روضة الرسول صل الله وعليه وسلم، وسلمت ودعت في روضته وسط الزحام الشديد، ربما رأت في وجهها شيئا ما.

فجأة استرعي انتباهها طفلا نائما في مهد متواضع من الأغطية القطنية، رأت السيدة لهفة عاتكة لرؤيته، فقامت من مقعدها وأزاحت الغطاء عن الطفل، فكان من أجمل ما رأت عيناها، شعر فاحم ووجه كالبدر؛ “تبارك تبارك الرحمن”، خرجت هذه العبارة من فيه عاتكة، حملته المرأة وأعطته لها، ونظرت مباشرة لعاتكة بنظرة حنونه. ترقرقت الدموع في مقلتيها وقبلت الطفل وضمته بشيء من الحنان، ثم أعطته لأمه وسألتها: ما اسمه؟ أجابت: عدنان.

وضعت المرأة ابنها مسرعة في مهده، ثم حانت منها التفاته نحو عاتكة، وأسرعت وضمتها بشدة، استغربتها عاتكة، لكن خلال المسافة المتبقية، لم تبرح صورة الطفل خيالها، ولا خاطرها، فقررت تبني أطفال لتقوم بشأنهم من الألف إلى الياء، وأصبحت أم لثلاثة. بل كل سيدة في عائلتها كانت على وشك الإنجاب تطلب منها أن تسمي وليدها (عدنان)، إذا كان صبي، وأضحي الآن عددهم على عدد أصابع اليد.

نذرت عاتكة حياتها لأعمال الخير والعلم، وكان لها نصيب التوفيق من الله.

تمر الأيام مسرعة متلاحقة الأحداث والحوادث، وفي إحدى جلسات قراءة القرآن وحفظه، وهو ما حرصت عليه أن تحفظ القرآن كاملا، التقت بسيدة تقربها من العمر، بشوشة ومتحدثة بارعة ورائعة، وكما يقال؛ تلعب بالبيضة والحجر.

نشأت صداقة بينهما، دامت لسنوات، تقربت هذه السيدة بسرعة البرق، تغلغلت في خصوصيات عاتكة، وفي مجريات حياتها، بل كان لها نصيب من بركتها، وتحسنت ظروفها وتغيرت أحوالها المالية بعد تعسر، وأقبلت عليها المشاريع من بعد عدم.. هذه السيدة من أسرة بسيطة، معروف عن أبنائها اللامبالاة، وشعارهم الغاية تبرر الوسيلة.

سممت حياتها ونقاء روحها، حيث كانت تصف كل شخص في حياة عاتكة بأوصاف مقيتة، تعمل على تحليل شخصيته، مما يجعل عاتكة تنفر منه، وهو ما تريده هذه الزنبقة السوداء، ثم بعد وقت اكتشفت عاتكة ان هذه الزنبقة أصبحت أعز صديقة لمن تصفهم بالانتهازية والأنانية واللوم والخبث،  كانت هذه الزنبقة مثار استهجان من قبل أسرة عاتكة، وبعض صديقاتها و زملائها، لكن عاتكة ضربت بنصائح الجميع عرض الحائط، بالرغم أن لها اختا لها بصيرة وميثاق قوي مع الله، بمجرد رؤيتها قالت لعاتكة: هذه المرأة تبطن عكس ما تظهر، توخي الحذر منها!

 ضحكت عاتكة من هذا القول وقالت: الله كفيلي فلا تخافي على.

دارت الأيام والليالي، وحدث ما توقعه الكل، وغفلت عنه عاتكة، ظهر المستور وتعرت النوايا وانكشفت الأسحار الواحدة تلو الأخرى، آخرها عبارة واحدة كانت أشبه بلطمة قوية على وجه عاتكة. ففي جلسة ود وحديث اجتماعي جميل، كان الحديث عن الزواج المبكر وتزويج الأبناء ورؤية الأحفاد والأسباط، وهم يلعبون ويضحكون من حولهم، وهي نعمة كبيرة، وهنا تقترن هذه الفرحة بالزواج في مرحلة من العمر الفتي، مثل ما كانت أمهاتنا تتزوج بسن مبكرة، وتزوج بناتهن بسن أقل من ذلك، بذلك يتخاوى الابناء والأحفاد في السن، يكبرون في كنف العائلة، في وسط الفرح والانبساط، أطلقت الزنبقة سهامها المسمومة وقالت: هناك من لن يعيش هذه السعادة! وقد حرم منها. بضحكة خبيثة كخبث قلبها وسواده الذي لم يزله حفظها للقرآن الكريم، الذي كان سببًا لتعارفها على عاتكة، لم تنجح آياته من تطهير نفسها الخبيثة.

في هذا اللحظة، كان الحضور يحاولون الحديث بصوت عال، يقينا منهم أن عاتكة، لن تسمع هذه العبارة، لكن عاتكة أسرتها في نفسها ولم تبدها. وجبر ربها بخاطرها، إذ مرت الآية الكريمة (إن شانئك هو الابتر) من سورة الكوثر، أمام ناظريها، فتذكرت قصة اليهودي مع رسول الله عند وفاة ابنه، وكيف عيره ولقبه بالأبتر، فنزلت هذه السورة جبرا لخاطر رسولنا الكريم، وليكون هذا اليهودي عبرة. رددتها عاتكة تكرارا ومرارا في طريق عودتها من هذا اللقاء، وهي في حالة ذهول من حقد هذه المرأة التي لم تراه من قبل.

ومرت الايام والليالي ثقيلة على عاتكة. في ذات صباح صيفي، نهضت عاتكة مفزوعة من رؤيا كفلق القمر، فقد رأت تلك المرأة معلقة بسلاسل من حديد أسود فولاذي، وبركة من النار تحتها، وهي تستغيث محاولة حماية ابنيها الاثنين في جرابها، وفجأة سقطا في النار، وتفحما، فأغمي عليها، ولم تعلم مصير تلك المرأة هل ماتت أم جنت؟

نهضت عاتكة مسرعة، شاعرة بانقباض وحزن كبير عليها، لأن الله جبر خاطرها، وانتقم لها انتقام العزيز المقتدر. خافت من رؤيتها، ففي العادة تتحقق رؤياها ولو بعد حين. أسرعت وصلت صلاة الفجر، بقراءة سورة الفاتحة والكوثر.

28.1.2024

مقالات ذات علاقة

موضوع إنشاء

سالم العبار

مخازني

محمد مفتاح الزروق

محابس الغرس

كريمة حسين

اترك تعليق