محمد دربي
1
البحر أكتسى بأسراره الدفينة، يبعث بنسيمه الساحر أينما وصل، والشاطئ يسكب النور للحيارى والغرباء، والموج يزهو بجوده الدافق غير المحدود، والغروب يقترب من وجه الليل، وكل شيء يتأهب لمناجاة العرائس، فما تاهت خطاه عن محراب البحر المسكون بالأحلام و بأنداء الغروب الطروب الراجي لكلمةٍ من ضوء القمر الهادي المُناجي غير مستتر أطياف وشوشة السماء.. أدرك أنّه يقف في محراب أروع الشواطئ من غابر القدم.
2
أدرك أنه أخطأ في المرة السابقة، عندما وقف عند شاطئ آخر، استغرب: لماذا لم يخبره الموج منذ الوهلة الأولى أنه أخطأ نجمته الغراء؟ الموج يشاكس الموج منكسراً على الصخور يجمع السوسنات الجميلة، ثبّت قدميه على أعلى صخرة، الموج يوشوش قدميه عن كلّ شتات أسراره، أحسّ أنّ الموج لا يتجاهل وجوده أوحضورة من زمان منذ أنْ على الأرض وجود.. رنين الموج يزداد رنيناً عند كل انكسارةٍ ويترك الباقي للريح يحدّث عن الدنيا وعن البحر تعب الترحال في الليل الوديع..
3
حلم الليلة الماضية أنّه ماهر في السباحة وخيال منازل في ركوب البحر ومنازله والمضارب البعيدة، مُدامة السحائب الزرقاء قادمةً من بعيد فرحةً مُعاراً لها حُسن كل مليحة في الأزقة القريبة ذات عينين ملحتين ترسمان كل روائع بنغازي، حدّثه البحر في حلمه عن ترانيم الموج الصاخبة بصوت الصمت، دنى من فوق الصخرة إلى مقربة من الشاطئ أكثر.. هاهي بنغازي أمامه تفتح ذراعيها لكل تائهاً أنكرته لياليه والزمن.
4
دنى فرقص قلبه مبتسماً مع الديمِ.. طيور البحر تحلق مسرعة من فوق الموج، يراها مرة تختفي، ومرات تعود غير مُندثرة تبشر في فرح بالغروب، هواء أزرق منعش يغطي رأسه، غيوم ترتدي فساتين فضية تقترب من أعرف الموج كلها بالحسن زُينت.
5
الموج عارٍ يرتدي الملح ويكتسي بالزبد ويحمل اسرار من يأتي بحميا العشق، صمتٌ هائلٌ داخل راسهِ يحفه برد الأصائل وأنداء الغمام، قال هامساً: ما الذي يجعلني أبتعد عن هذا الشاطئ؟ كيف يمكنني أن امضي في هذه الحياة دون الغوص في اعماق هذا البحر في نار الهوى واللُّجَجِ.. ومن البحر يفز موجٌ أزرق وأخضر وأبيضٌ وفزّ في رأسه سؤال وكان المجيب: هل البحر يعرف أنّه بحرٌ؟ دنت منه موجة سألها متوهماً وهل يدرك الموج أنّ يعدو مهللاً نحو لقاء حتفه؟ من في هذه الدنيا يحمل في داخله سر الموج؟ زاد تحيره من أمر أسرار البحر يكمن فيه المرجان والحزن البهي.
6
عناقيد الغمائم ترتوي من شهد السحائب وتنفث ماء الورد، تثاءب البحر، بدأ الموج يثرثر بهدوء، أدركه صوت الموج، نسي أن يقول أيما شيء، تذكر من الحلم رقصات طيور البحر، تمنى أن يرقص طليقاً كطائر بحرٍ حرٍّ، نسي الكلام في عزّ الحاجة للكلام، نظر إلى الأفق البعيد الصامت، غزاه الصمت ليس هنا، هناك عند الأفق إذ الأفق ذاته فيه الوصل والهجر، قد يكون الأفق ساحراً قد يكون الأفق مبهجاً، لا أفهم سرّ هذا الأفق، فمن أسال عن سره؟ أليس من العدل أنْ نعرف ما يخفيه هذا الأفق الفسيح؟
7
بدأ طيف الغروب يتسلل ليغطي فستان السماء الأزرق، ستلبس السماء فستان مباهج البرتقال المحفوف بالورد الأحمر، في هذا الوقت تبدأ عرائس البحر تغني وكل روحهِ مسامعٌ، تُغني وتقترب من الصخر تُغني وهو كله أعينٌ.. بقايا شناشيل الشمس تلامس الموج الهادئ، والبحر يسح من كأسه المبرقع باللؤلؤ شراب الهوى، وكل عروس تلثم من الكأس وتطرب، قال في نفسه: أيّ غروب هذا؟ فيوض شناشيل الشمس الدامية تناغي الأمواج الهادئة، ثم ّ نظر إلى العرائس وما يحدثن من موج راقص وسأل نفسه: هل يكمن في اعماق هذا البحر من هدفٍ أو معنى أو أسرارٍ أو رموزٍ؟ فلمن ترقص العرائس؟ يا الهي كم تبدو العرائس سعيدة، هل تنشد أغنيات البحر في ضواحي المدينة.
8
بدا لعينه أنّ فضاء السماء انفتخ على عالمٍ من عوالم البرزخ، وها هو البحر يرقص مع العرائس والموج يغني كما تغني العرائس.. العرائس تسبح في حلقةٍ من الرقص المرجاني، عادت العرائس من حيث أتت إلا من عروس واحدة، قال بصوت فَرٍح: ما أجملك يا وجه القدر.
9
رياح خفيفة تفتح ابواب البحر، تنسم من ثغر الريح نسمة صيف خفيفة مرحة، أخذته النسمة من ذاته ورفعته فوق ظلال الوجه الصبوح، عروس البحر تسبح نحوه، تعطلت مدركاته عن التفكير، أحس بهسهسةِ كلماتٍ ليس ككل الكلمات، هل هي من النسمةِ أمْ من عروس البحرِ، سأل النسمة من أين أقبلتْ؟ لم تُجبه والعروس ترفرف دلالاً بذيلها الفضي، سأل عروس البحر، فابتسمت من ثغرها؛ فياحةٌ عيونها السوداء قال: وأنت من أين أتيتِ ومن أنتِ؟ هل تفهمي عني؟ بعد انتظار بشيء من القلق والحيرة قالت: أنا من مملكة تعرف جميع اللغات. نظر اليها بشغفٍ، بادلته النظر وقالت: أنا أعرفُ أنك تعشقُ البحرَ؟ فماذا أنت عاشقٌ في البحر وقد يختالك الغرق؟ لم يُجِبْ كان عليه أن ينصت لها بروح التمني وعين الرقيب، حدجته بعينين زرقاوين ساحرتين يطوف بهما طيف أسود كدجى الليل، تطلع فيهما ذاهلاً، أحسّ أنه يقف – فجأةً- فوق حقل أحضان صخرة التهلكة لا الأماني الحائرة، وقف مترنحاً من عجائب أجفانها، تمتم: الهروب لا يجدي، لا يجدي أن أهرب، فهل انجو من قبضتها؟ فيا مُهجتي ذوبي في سماء عينيها هكذا قال، ومن جمال صوت العروس استحسن صوتها.
10
اقتربت من الصخرة أكثر، شعرها القصطلي يتدلى على كتفيها وصدرها، حثّه جمالها وسرها و حلاوة وجنتيها على التعلق بها أكثر، فقال لها بحرارة: أنتِ تُغريني بأن أقترب منك أكثر، فماذا تريدين مني ؟ لم تجبه وربما لم معنى سؤاله فغاصت في البحر واختفت. لحظة أختفت كأنها وابل من السنين، ظهرت من جديد تبتسم.
11
نظر بعينيه مستفسراً، بدا أنّه غير قادرٍ على قول أيّ شيْ، تطلع حوله إلى الطيور والغمائم وسكر من لحظ العروس، أحسّ بطرب في فؤاده لم يحسه من قبل، قال في محاولة للتعبير عن لغة البحر: لماذا تأتي لهذا الشاطئ؟ قالت وعيناها تلمعان كأجذَلِ فارحٍ : لكي تهتدي بي كل الأمواج في كل ليلةٍ، ويهتدي بين الحيارة في الحياة مثلك وتهتدي بي نساء الحي.. بهت مع انداء الغمام وهي تتساقط فوق رأسها ورأسه، قال لها سأبقى معك حتى بزوغ قناديل النجوم وحتى الصبح في البلج.
12
ابتسمت واستدارت، شعرها القصطلي يغطي كتفيها وظهرها، الهواء تارة ساكن، وتارة يهلل، أما الشمس فهي تمرح في فضاء الأفق المغموس في حقل الورد المبرقع بخدود البرتقال، لم يكن الشاطئ بهذا القدر من الانفتاح، الغمائم تهدأ والريح تنزلق من فوق الموج في حسن بديع، عنّ له أن المكان الوحيد الذي يفتح له ابواب المجهول هو هذا الشاطئ. فرِضا هذا الشاطئ فيه اختياري، إذ تحلى تجلى، واهاً إلى مائه اشتياقاً، فها أنا جيئتك لأشاهد معنى الخلد فيك.
13
كيف تترك هذه الجنية اعماق البحر وتأتي إلى هذا الشاطئ بالذات، كيف خرجت من رحم المجهول؟ هل هوت من عرانين السحائب، فلماذا ظهرت أمامي ولماذا هذا الشاطئ بالذات نعم بالذات، سمعت الجنية نِداه فاستدارت وعادتْ مسرعةً واقتربت ثم دنت فتدنت من الصخرة حيث يقف، والشمس تختال في حلتها تخطو نحو الأفق البعيد والأمواج تودعها في حنو وجلال، السنونو يجول مودعاً أباريق الشمس التي تكشف عن وجنتيها البرتقايتين عندما كانت تدنو من مخدع البحر. أقتربت الجنية من الصخرة ومنه وقالت: أتريد أن تعرف لماذا هذا الشاطئ؟ حسناً، لقد جبت بحاراً وشطآناً ولكني لم أعشق إلا هذا الشاطئ، فمن عشقي لبنغازي وولهي بها عشقت شاطئ الشابي طبيب التائه الغريب.
14
وأقبلت عليه نسمة غيمة يتزاحم على حسنها نسيم الموج وطيف الغروب وهمست له لتجمع شمله وتروي ظمأه، سرت في كلماتها سحراً تُروى منه عطاش السواقي: “فمنْ لم يَمُتْ في حبه، لم يعشْ به…”، قال في نفسه: لك المجد يا بنغازي الخالدة.
15
وفي لمح البصر اختفت وعندها أدرك سرّها وسر الشاطئ الرهيب واهب الخلد عبر الزمان والدهور لبنغازي.