صحوت كعادتي على تمام الثانية عشر بالضبط منتصف الليل، أو بداية يوم جديد حسب الحسابات الفلكية، من اللحظة الأولى كنت متيقظاً جداً بعد وجبة نوم مشبعة كالعادة أيضاً، مواعيدي ثابتة ومقررة لم تتغير يوماً فيما أذكر، جلت بنظري فرأيت أشقائي يغطون في نوم عميق، شقيقي الذي يكبرني مباشرة كان قد غفى في اللحظة التي استيقظت فيها، لم يحدثني كعادته فقد كان متعباً بعد مناوبة طويلة استمرت واحد وثلاثون يوماً، أما أنا فمناوبتي أقل منه بيوم، كنا اثني عشر أخاً لأم واحدة وأربعة أباء، ننام في غرفة واحدة طويلة جداً كعنابر السجن ونصحو بالتناوب فيما بيننا.
أحب الساعات القليلة الأولى لصحوي فغالباً تكون استمراراً لليوم السابق ويغط العديد من البشر في نوم عميق .. ليس كنومي طبعاً إنما لساعات فقط، أنا لا أشعر بالوحدة فقد اعتدتها، وعلى سيرة الصحو قريباً يصحو أغلب البشر وفق تتابع بداية النهار، وتبدأ مزحتهم السمجة والقهقهات وأحياناً تكون مزحة مرعبة أو خطيرة تصل حد الموت أو الجلطات من قبل عديمي المسؤولية، لكن أليست هذه طبيعة الكثير من البشر؟
سأذهب إلى المطبخ وأعد أبريقاً من القهوة، أرتشفه على مهل وأبدأ بمراقبة الأحداث المتتالية ، وعليّ أن اعترف أن هذا اليوم رغم مقتي له، ولارتباطه باسمي بصفة مذمومة، إلا أن بعضه مسل نوعاً ما .. حسناً ها هي القهوة جاهزة وبما أننا في فصل الربيع والطقس منعش في معظم الأوقات وخاصة الصباحات والمساءات سأجلس في شرفتي، وربما أحفز ذاكرتي نحو الماضي فأنا لا أذكر بالضبط متى بدأ هذا التقليد الذي التصق بي.
ربما من الأفضل أن أعود بالذاكرة تدريجياً، سأبدأ بالذكريات القريبة التي علقت في ذاكرتي، لازلت أذكر الكثير من الأحداث الدموية لمناوبتي الماضية والتي سبقتها وقبلها أيضاً، ما سجلته ذاكرتي عن وحشية البشر، والشر الكامن في نفوسهم لا يمكن نسيانه .. لكنني أذكر أن في بقعة من هذه الأرض تسمى ليبيا، التصقت بي تهمة أخرى غير الأولى .. أذكره جيداً، نعم أذكر مشهد شباب يافعين معلقين على المشانق، وهناك من يؤرجحهم ويتعلق بهم كأنهم دمى، كان مشهداً بشعاً .. لا أعرف ما هي تهمة الضحايا بدقة، لكنني أذكر جيداً المبررات التي ساقها الجناة لتبرير فعلتهم الشنيعة، في واحدة من أسوأ أنواع الكذبات وهي تبرير ارتكاب الجرائم، نعم .. أذكر هذا وغيره من المجازر التي ارتكبها البشر، يسوقون الكثير من الكذب تحت مسميات عدة، الثورات والتطهير والأعداء وغيره .. حسنا كلها مبررات واهية وكذبات وقحة، يختلقونها لتبرئة أنفسهم وإراحة ضمائرهم، لكن هذه الأفعال البالغة السوء لم تقتصر يوماً على مناوبتي، قرأت بعض ما دونه أشقائي من كذب يمارسه البشر، ويتقنون إخفائه خلف عدة مسميات.. وهذا النوع من الكذب جريمة كبرى ليست كتلك التي التصقت بي.
الآن أتذكر متى بدأ الأمر، وقتها قام أحد القساوسة وأظن اسمه ” البابا غريغوري ” بتعديل التقويم الميلادي، حتى ذاك اليوم كنت أظن أنني الابن الثاني بين أشقائي لكن البشر كانوا يحتفلون يوم مولدي كبداية لدورة جديدة للأرض، إلى أن تم تعديل التقويم واكتشفت أنني الرابع بين أشقائي، لكن بعض الأوفياء لي من البشر ظلوا لفترة يحتفلون كالسابق ولم يعترفوا بالتعديل، سخر منهم بقية البشر واعتبروها كذبة أبريل.
أنا أبريل الذي أطلق عليّ هذا الاسم لأنني أعلن عن تفتح الربيع، فقد جاء اسمي مشتقاً من اللغة اللاتينية ” aperire ” وتعني التفتح في إشارة لقدوم الربيع، وربما يكون مشتقاً من ” إبرو ” التي تعني إله الحب أفروديت، ولي أسماء أخرى مثل ” نيسان ” في اللغة الأرامية و” نيسانك ” في اللغة السومرية وتعني الباكورة، لهذا أشعر بالإستياء بعض الشيء فأنا تفتح الربيع وإله للحب، ألا يقول البشر لكل امرئ من اسمه نصيب، فكيف يتهمونني بالكذب ويحتفلون بقدومي وكأنني كذبة؟!
ها أنا الآن أسمع من بعيد ومن شتى أنحاء الكرة الأرضية.. بعض القهقهات والصراخ .. لقد بدأوا بممارسة طقسهم، وبعد مرور قرون عديدة لا أذكر عددها، ولا أمتلك ذاكرة تحفظ كل ما حصل ويحصل دائماً، ما أذكره وأعرفه وموقناً منه.. أن الكذب طقس يومي لدى البشر، وأن أهون الكذب الذي يمارسونه هو كذبة أبريل، وأكاد أجزم أن احتفائهم بتلك الكذبة التي ألصقوها بي، ما هي إلا حقيقة ساطعة في تاريخهم، إنها حقيقتهم .. الكذب حقيقة .. حقيقة كل الأشهر وأيام السنة، وأبريل يفضحهم .. كذبة أبريل .. هي حقيقتهم التي يعرفها أبريل.