حوارات

الباحث عبد الله السباعي : التسيس ساهم في اختفاء خصوصية الأغنية الليبية

الباحث الموسيقي الدكتور “عبد الله السباعي”

يُخبرنا المتصوّف العاشق “شمس الدين التبريزي” أن الموسيقى هي الطبيعة برمتها حين تغني، ولعلنا نلمس جوهرية هذه الحقيقة في حفيف الشجر حيث يُستقى الورق الذي نكتب عليه أبجدية الغناء باللغة، وصوت البلابل على الأغصان العُلا والعصافير بل وحتى صرير الأبواب العتيقة نُبصر من خلالها ظمأ عزفها الشجيّ، وفي صفير الريح وهي تتهجى حروف النداء لذاك البعيد وعند نقر رذاذ المطر لنوافذنا ذات شتاء تهمّ فيه أحلامنا بالطيران، لذا لا غرو بأن الموسيقى تُطوِّق جيد أيامنا الوجودية نجدها أينما منحنا ذواتنا الفرصة والوقت للتأمل فالمران على التأمل يُشرِّع أمامنا الأبواب ليقودنا على صراط المعرفة المحفوف بالألم والأمل فنُشيِّد من النغم المنساب فردوسنا المُنتظر ثم نمضى على هذا الصراط مستعيرين من أعواد القصب حناجرها السخيَّة، وعبر هذه الفسحة الوثّابة نتوقف مع الباحث والدكتور “عبد الله السباعي” لنتطرّق إلى مدى تأثير الموسيقى بحياته، كما نُعرِّج على أبرز التحديات التي تواجهها الأغنية الليبية والعربية، ومآلات المسار الذي وصلت إليه أحوالها.

وضيفنا لهذا اليوم من مواليد مدينة مصراتة عام 1943م حاصل على ليسانس تاريخ من كلية الآداب والتربية بالجامعة الليبية بنغازي عام 1965م، ومتحصل كذلك على بكالوريس في التأليف والتوزيع الموسيقي من المعهد العالي للموسيقى العربية عام 1975م بالإضافة لنيله دكتوراه الفلسفة في الفنون وعلوم الموسيقى من أكاديمية الفنون بالقاهرة عام 1996م لديه عدد من المشاركات في المحافل الفنية المحلية والعربية، علاوة على تجربته في إعداد وتقديم مجموعة من البرامج التلفزيونية والإذاعية صدرت له العديد من المؤلفات البحثية والترجمات من أبرزها أطروحته حول تراث النوبة الأندلسية في ليبيا نوبة المالوف المعاصرة عام 1996م.

هل تتذكر أولى بذار الموسيقى بداخلك؟
باختصار وبشكل موجز، بدأ اهتمامي بالموسيقا منذ فترة مبكرة من عمري، وقد يكون هذا الاهتمام جاء من ثلاثة مصادر، الأول نشأتي في بيئة صوفية عيساوية زاخرة بفنون المالوف وقصائد المديح والأذكار، والثاني قرب بيتنا من سينما مصراتة، وكثرة ترددي عليها مما جعلني أحظى بمشاهدة أغلب الأفلام المصرية ألاستعراضية القديمة، التي كانت تُعرض أولا بأول خلال العقدين الرابع والخامس من القرن الماضي، إلى جانب الأفلام الغربية، التي كانت موسيقاها التصويرية الجميلة تشد انتباهي، وتزيد من فرصتي في سماع ألوان شتى متنوعة من الموسيقا العربية والغربية. والثالث اقتناء والدي لراديو موريللي عام 1949. وقد يكون هناك سبب رابع تمثل في استعدادي وموهبتي الموسيقية، التي لولا وجودها ما كانت كل هذه البذور قد آتت أكلها، وأنتجت المحصلة النهائية، التي أصبحتُ عليها الآن والحمد لله.

ماهي الروافد التي ساعدتك على تكوين ذائقة موسيقية خاصة ؟
لا شك أن العوامل السابقة ساهمت جميعها في خلق ذائقتي الموسيقية الشاملة، حيث جعلتني قادرا على تذوق وفهم العربي الشرقي بمقاماته وطبوعه الطبيعية الطربية الجميلة، والغربي بمقاميه المحدودين المقام الكبير (ماجور) والصغير (مينور)، وموسيقاه المؤدَّاة بآلات الموسيقا الغربية الأوركسترالية. ولعل ما جعلني أصل لهذه الدرجة من التذوق مقدرة حاسة سمعي العربي كما خلقه الله سبحانه وتعالى، الذي ميَّزنا بأذن قادرة على سمع وتذوق جميع الألوان الفنية، بينما تعذَّرت هذه الإمكانية على أسماع بقية الشعوب.

لماذا افتقرت الأغنية الليبية اليوم إلى ملامح خصوصيتها ؟
للأسف هذا حال الأغنية العربية عامة منذ العقد السابع، وهي حالة جاءت مع الانفتاح الاقتصادي في مصر ، وظهور أغاني أحمد عدوية وما بعده، وفي فترة الثمانينات مع بروز تجربة حميد الشاعري الذي كان سببا في ظهور هذا النوع من الأغاني ، وزادها الفيديوكليب الذي كان القشة التي قسمت ظهر البعير ، ونحن في ليبيا انعكست علينا هذه الحالة، عكس ما كان سائدا في أغاني زمان ، وأعتقد أن تسيس الأغنية الليبية وعسكرتها ساهم في هبوطها واختفاء خصوصيتها المتوارثة أيضا.

أليس هنالك من مشروع يمكن أن ينهض بواقع الأغنية الليبية؟
للأسف هذا يحتاج لدعم الدولة ، والدولة تصرف على ما يهمها ويجمّلها في عيون الناس كما كان العهد السابق ، ناديت كثيرا في كتاباتي السابقة بتأسيس الفرقة الوطنية للموسيقا ، ولكن لا حياة لم تنادي ، تاسست أول فرقة وطنية عام 1988 من ستين عازف ، واعيد تكوينها عام 1989 , أيام د. رجب بودبوس وتكونت من 100عازف ، وكنت قائد الفرقة في المرتين ، بعدها ماتت الفرقة ، حاول د.امبيرش إعادة تكوينها عام 2005، ولكنه فشل ، ومنها ماتت الفرقة إلى اليوم.

ما قولك في أن جيل فكرون والمزداوي قد ساهما في تحرير الأغنية الليبية من قالبها الكلاسيكي ؟ فثمة تيار يدفع بهذا الرأي ويدعمه
هي أغاني ليبية عربية بصبغة غربية، وهي محاولة لتطويرها وتحديثها وتسويقها خارجيا ، وقد نجحا في ذلك ، وكانا قادرين على انجاز نجاح خارجي ، ونشرا الاغنية الليبية الحديثة عربيا وعالميا.

إذن الأغنية الليبية والعربية كانت بحاجة في تلك المرحلة إلى جرعة من التجديد ؟
نعم، وهذه سنة التطور لكل عصر أغنيته وموسيقاه النابعة من الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المُعاش ، ولكل عصر جمالياته وأنماطه الخاصة به ولا شك انها تختلف كثيرا عما سبقه في مظاهرها وتوجهاتها الفنية والشخصية، ولا يجب ان نجبر شباب عصرنا اليوم على فهم وتذوق وتقدير فنوننا السابقة التي لا يزال لها محبيها ومستمعيها ومتذوقيها.

لكن ألا ترى بأن الدفع بالأغنية الليبية والعربية لفخ العصرنة قد طمس هويتها؟
بالتأكيد، إذ لابد من التضحية بالقديم في هذه الحالة في سبيل التحديث والعصرنة ، الأغراض الشعرية ، والمقامات والآلات والإيقاعات، اختفت أو تغربّت، وحلت محلها ما أراده صانعوها الجدد.

أحيانا الإقدام على الجديد دون وعي مسبق يشوه القديم ويقدم نماذج مائعة أليس كذلك؟
ليس شرط طالما أنه يميل إلى أن يتناسب مع عصره وأهله الذين يختلفون بالتأكيد عمّن قبلهم .

حتى وإن انسلخ واغترب عن موروثه القيمي؟
لا يهمه الموروث، الذي قد يستفيد منه في أعماله الجديدة ولكن بشكل ونظرة عصرية تناسب مفاهيمه.

ماهو سبب جمود نمو تطور فن المالوف منذ رحيل الفنان حسن عريبي ؟ إلى ماذا يعزى ذلك برأيك؟
لقد كتبت أطروحة دكتوراه في المالوف عام 1976, في أكاديمية الفنون – القاهرة عنوانها( تراث النوبة الأندلسية في ليبيا – نوبة المالوف المعاصرة )،وهو موضوع طويل ومتشعب ، المالوف موجود في ليبيا وبقية دول المغرب منذ خمسمائة عام ، وهو تراث كبير وواسع ، وعند نزوحه من الأندلس احتضنته زوايا الطريقة العيساوية في بلادنا واصبح من اهم فنونها الصوفية، وهي التي حافظت عليه ونشرته عبر الاجيال المتعاقبة ، المرحوم عريبي نقل المالوف من بيئته التقليدية الزوايا العيساوية إلى الإذاعة والحفلات الساهرة ، وأدّاه وسجّله بفرقة موسيقا عربية متكاملة ، وتدخل في ترتيب مقاطع نصوصه الأدبية، والّف له مقدمات وفواصل موسيقية غريبة عن النوبة بدلا من استفتاحاتها الآلية المعزوفة بآلة الغيطه، وأعرب أزجاله الملحونة ، وهذا يتعبر تدخل في موروث فني اصيل، وعمل على نشره خارج ليبيا في كثير من الدول العربية والأجنبية ، ولا شك انه نجح في ذلك . والمالوف باق في الزوايا بنفس أهميته التاريخية وسيستمر كذلك ، ترجمت كتابا عن اللغة الإنجليزية كتبه استاذ مالطي اسمه فيليب شنتار عن المالوف الليبي وهي أصلا اطروحة دكتوراه ناقشها المؤلف في جامعة شيفلد – بريطانيا ، كنت أنا والمرمم الشيخ حسن عريبي من أهم مراجعه.

نعم لكن لم توقفت حركة التطور بفن المالوف ؟
التطوير الوحيد هو نقله من الزاوية إلى الإذاعة ، وقد استمرت هذه الحركة مع فرقة الشروق للمالوف والموشحات – فرقة الشيخ قنيص – فرقة الزاوية – وفرقة مصراتة ، وهي فرق سارت على نفس النسق الذي وضعه عريبي ، وهذا لا يعد تطويرا للنوبة بل هو إعادة صياغة لموروث أصيل عريق.

ما تفسيرك لفكرة اقتصار المالوف على نخبة اجتماعية محددة بمعنى أن مسألة تذوقه ليست واسعا مجتمعيا كبقية صنوف الفنون الأخرى؟
المالوف فن متداول في الزوايا العيساوية ويؤدّى في مناسباتها الدينية والاجتماعية مثل الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، وتدريجية العريس ، ورفع جنائز العلماء والمشايخ والشاب غير المتزوج ، وهو معروف في هذه البيئة وبين مريديها ومحفوظ من قبلهم، ويتوارثونه بينهم ، وهو على فكرة مقتصر على المنطقة الغربية الممتدة بين طرابلس ومصراتة فقط، ونقله للإذاعة وتسجيله في أشرطة وأدائه في الحفلات عمل على نشره على مستوى أوسع واشمل ، وهو ليس سهل الحفظ والأداء مثل الأغاني العادية مما جعله ربما يحظى بانتشار أقل من الأغاني.

ماذا ينقص الفن الليبي اليوم ليتحرر من حدوده المحلية ؟
أعتقد أن الدعاية والإعلان، ودعم الإعلام الحكومي والخاص، من أهم الأسباب المسئولة عن تحرر الفنون، باختلاف أنواعها، من حدودها المحلية وانطلاقها إلى العربية والعالمية. يُضاف إلى ذلك نوعية العمل نفسه، وخامته المحلية هل هي قابلة لهذا التحرر، أو أنها محدودة الملامح والمظاهر الفنية، مما يجعلها قابعة في مستواها المحلي المحدود.

الملاحظ أن ثمة ملمح قوامه الشجن تمتاز به معظم الأعمال الغنائية الليبية ما تفسير شيوع الشجن حتى في الأغاني ذات الطابع الخفيف؟
أعتقد أن الشجن من أهم ملامح الموسيقا والغناء العربي والشرقي بشكل عام، ويرجع ذلك إلى التركيبة الفسيولوجية للإنسان العربي، وبقايا جذور ورثناها من أجدادنا العرب القدامى، الذين عاشوا حياة قاسية في صحراء مترامية الأطراف، إلى جانب ما تعرضنا له في بلادنا خلال تاريخنا الطويل من ضغوط نفسية ومعاناة قاسية من شعوب استعمرتنا خلال قرون مضت كان لها أكبر الأثر في تشكيل وجداننا، وذائقتنا الفنية.

هل تعاني الموسيقى العربية من قصور لدرجة تدفع ببعض الموسيقيين إلى اقتباس أو استنساخ الألحان من الغرب؟
تتمتع الموسيقا العربية بخصوصية جعلتها تختلف كثيرا عن بقية الموسيقات الأخرى في العالم. تتمثل هذه الخصوصية في: مقامات موسيقية متميزة بدرجات نغمية طبيعية، أوزان وإيقاعات ذات ضروب لها علاقة ببحور وقوافي الشعر العربي، طريقة أداء تعتمد على إيجاد الطرب من عُرب صوتية صُغرى، تثير في الأسماع الكثير من المتعة واللذة والشجن، وتجعل النفوس تستمتع بما تسمع من أصوات قادرة ومقتدرة على خلق هذه الحالات النفسية. وبالرغم من هذه الخصوصية الجميلة، حاول الكثير من الفنانين العرب، على مدى العقود الماضية، استجلاب ما لدى الغرب من ألحان، وأوزان، وآلات، وأساليب أداء، وألوان صوتية، بحجة تحديث وتطوير الموسيقا العربية، ونقلها من المحلية إلى العالمية، وفي رأيي أن هذه المحاولات لن تجدي نفعا، وأنا أمثُّلها بشخص عربي يرتدي لباسنا التقليدي نضع على رأسه قُبَّعة ليبدو متطورا في مظهره العام .

كلمة أخيرة:
شكرا لكم، وتمنياتي لبلد الطيوب، التي نعزُّها ونحترمها كثيرا، دوام التوفيق والسَّداد، وكلمة بالمناسبة لوزارة التعليم رجاء الاهتمام بالتربية الموسيقية، وإعادتها لمدارسنا، خاصة مرحلة التعليم الأساسي، لما لها من أهمية في خلق التذوق الفني بين التلاميذ، ما يساعدهم على الاختيار الصحيح فيما سيستمعون له في مستقبل حياتهم، وأخيرا أتمنى افتتاح محطة موسيقا ليبية على موجة FM، تُذيع الموسيقا العربية، والعالمية طوال النهار والليل، كما هو موجود في أغلب دول العالم.

مقالات ذات علاقة

عمر جهان وجمالية فن اللحظة وعمق الروح

إنتصار بوراوي

القاص الصديق بودوارة/ لـم أكـتب شيـئاً بعـد !!

المشرف العام

مصطفي جمعة يقول: إن نور الحقيقة الساطع يزهق روح الشعر

المشرف العام

اترك تعليق