المقالة

القارب والنحوي

من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي عن المصدر
من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي عن المصدر

(أ)

بهيجٌ وراقصٌ كما النّد والبخور هو العصر ثم الغروب في ميناء المدينة، في رفقٍ صامتٍ يسري فى مجرى حداثنه، ينغمس في شرودِ مع غمائم فرحة تحس بها في الأفق نجمة متكئة على عرش الثريا ومع انسياب الدوالي الفاتنة تغادر عصافير قباب السماء ديارها بحثاً عن بحرٍ مجهول، يستقبل الغروب هتاف سحائب تركض في دروبِ كهوفِ اسوار المدينة، كنائس في كهوف حجرية، معلقة في البراري.. العصر سترحل شمسه الدافئة عما قريب، سترحل حيث البرد الخفيف يحلو في أكمام بساتين زنابقها حمائم ملونة وأحلام حسناوات يرسمن في مرايا السحائب مكنون الخيال ليبعدن عن المدينة غدر البحار..وعين الحساد .

(ب)

ويظل البحر بحر حيث هشة الريح الجنوبية تسري في الفضاء الأريحي مطلة على اشرع قاربٍ اسمهُ “الغيب” يبحر كعادته من رصيف الميناء ثم يعود اليه مُحملاً بثياب العرائس وقراطيس تهاليل القناديل.. وهنا عند اِبحاره لم تتوقف سحائب قادمة من بعيد تستصرخ الشرفات المشرقة بضوء الأنس، تمخرُ بدلالٍ صوب موطئ اقدام جدوال تتغني بعشق الماء السابح في عوالم الأسرار، تمضي فيه مع نسيم المساء القادم، المُعطربعجائب ما يخفيه الغيم، وتعرفه نجوم ليالي سيوف البرق وقعقعة الرعد.

(1)

القارب بين وقتٍ ووقتٍ يُبحر كعادته ينتشي من مخيلة عرائس البحر، تتحرك مجاديفه تتسامى في انتظامٍ، تنبسط أشرعته الملفوفة بالبرد تستنشق الريح المبللة بالغمائم، ينتذب في يُسرٍ مكاناً بعيداً، يتهادى في نغشٍ، يلامس الموج، ينساب خارج الميناء في تمايل ويمضي نحو الأفق البعيد، يستمع لحكايات الأنس والجن وطلاسم الحوت، بحّارته المهرة يتطايرون مُبتهجين بسرعة بين كلّ سارٍ في علوه و بين ألأشرعة في خفة وبراعة كخفة الغزلان، يتحركون كالنحل الرشيق من جهة لأخرى.. القارب يتباعد بيسر نحو الأفق عن المدينة تاركاً خيطاً اثره فوق الماء يشق الماء، الشمس قبل غروبها تمسح، رغم البرد، جلود البحارة بدفءٍ سخي.. بعد حينٍ تتجمع الغمائم تحت السحائب وريحٌ قادمةً تهزّ القارب وترفع أعلامها في الفضاء، حركة الموج ترتفع على مهلٍ.. بعد لحظةٍ بدأ القارب يهتز.. والقارب  يتجه وسط اليّم القادم من ونوايا البحر غامضة بما تكتبه في رسائلها عن عجائب محار البحار وهزيع الليل المُمطر..

(2)

على القارب يركب المولى جحا البحر  كعادته مُسافراً نحو الشمال، يحرق تبغاً عتيقاً، يجلس قبالته رجلٌ وقور، مُشرئب الرأس، تظهر على سماته علامات الفطنة والذكاء، أنامله تناجي حبات سبحة زمردية تتناغم في لحظات متوالية مُتاتبعة، ينظر حوله بإهتمام، نهض من مقعده وتقدم بضع خطوات نحو مجلس جُحا، اقترب منه، سلمّ عليه، جاد اللقاء بالود والإنس والمشاعر الطيبة، القارب والبحر يتناجين.. مدى جحا عبر الريح بصره إلى الأفق البعيد ثمّ إلى الوجه الوقور وقال: سيدنا، شرفٌ لي أن أبحر معك هذه المرة وأنت – ماشاء الله-  المعروف بالنحوي الضليع في مدينتنا، تبسم النحوي واغتبط ونظر إلى المولى جحا نظرة شديدة الإنتباه، سكوت مفاجئ، تجول في ذهنه افكار كثيرة يصبو إليها في كل لحظةٍ مهما استدار الزمان: فهو النحوي المحترم في كل الأوساط العلمية والفكرية وهوالذي لو استطاع لجعل النحو يؤكل كالثريد أو يُشمّ كالياسمين أو يُزهر كالريحان، فهو الذي تُقبّل يداه احتراماً لعلمه وتبحره في علوم الصرف والنحو بل وعروض الشعر وفقه اللغة.. هذه المرة بدأ الطقس يتسول إلى السحائب البعيدة، المطر بدأ ينهمر خفيفاً والموج يؤنب الأسماك، تذكّر النحوي تلاميذه النجباء الذين يشيدون دوماً بخزانة علمه الرحبة وفراسته التي لا تضاهى في اللغة والنحو وقواعد الإنشاء، تنهد من زحف الغبطة على قلبه وعقله وقرّر أنْ يُنازع هذا المولى جحا حتى يصل في آخر المطاف إلى الشمال مطمئن البال على النحو وعلوم اللغة والإنشاء ويصير مباركاً عند بديع الزمان الهمذانيّ وسيبويه..

(3)

وبثبات وثقة عالية حدّق النحوي في وجه جحا متسائلاً: يا مولانا هل تعلمت النحو من قبلٍ؟، في الحال ابتسم جحا متعجباً، ثمّ انفجرت في قلبه اجابة بقوة ملهمة تصب فيها كلمات من برنين الجواب: لم يحصل ليّ الشرف يا سيدنا، لم يحصل لي الشرف.. تململ النحوي ولم يصدق إجابة المولى جُحا، غمر جحا أصابعه في لحيته العزيزة، لم يتمالك النحوي نفسه وقال بنبرة صوتٍ تنم عن الغيظ وهو مُحتجاً مُتجهماً: أنت المولى الحكيم ذائع الصيت لم تتعلم النحو ولا تجيده، يا للأسف على هذا التقصير بل ليس من اللائق على حكيم مثلك لا يجيد قواعد النحو!! وقف حجا مدهوشاً، لم تتبخر كلمات النحوي من جمجمته.. إنذهل صامتاً.

(4)

 نهض النحوي من جوار جُحا غاضباً وتركه وحيداً بالقرب من برميل ماء، وقبل أن يبتعد عنه التفت اليه على مسمع من البحارة: أتعرف يا مولانا جُحا إنْ كنت لا تعرف ولا تجيد النحو فقد خسرت نصف عمرك، أجل أنت تخسر نصف عمرك وتفقده وهذا منافياً للحكمة عند أهل العلم بالنحو.. دهم جحا أحساس بسوء المصير، وقف جحا لحظة كأنه يفكر في أمرٍ ما، إكتشف أنّه قد يكون متهماً بخيانة اللغة، تمنى أن يطلق صرخةً على أنْ تتلاشى في الحال.. بدأ الموج يعبث بالقارب فجأةً، ذُهل جحا وفزع، بُهت من على القارب من تغير الطقس، مياه البحر تعلو وتهبط.. صارت الرياح تعدو وصار الموج يرتفع.

(5)

الغيمُ يُحلّق في غضبٍ فوق القاربِ، يفجرّ عيونه السخية، مصابيح البرق تتألق مع نداءات رقص الغمائم وخطيب الرعد يرتجس بالشهوة والجنون، وقطر المطر المُرشرشِ يشاكسه عنوةً وحفيف صوته يغرق في البحر، مطرٌ مطرٌ، مطر، مع المطرٌ ينبجس الموج يرتفع من ثغور البحر، منقوش بالدجى، البحر متلاحقةٌ غيومه غزيرة المدّدِ، ريحٌ تستحم في الغمام، ريحٌ تحيط بالقاربِ من كل جانبٍ وتنثه بصخب الغمائم في يباب البحر الشاسع، سيوف البرق لامعةٌ تتبعها قهقهة الرعد معربدةً وها هي “أقواس السّحاب تشربُ الغيوم”، مطرٌ… مطرٌ.. مطرٌ يكلل رأس القارب، سحائبٌ تهجر الأوكار، متلاحقة جنودها تتبارى، المطر على البحر مكبوب ها هو يتبعثر في شوارد القارب..

(6)

لا يزال جحا في سفر دائم  مُبحراً على القارب، يعبر إلى الضفة الأخرى ليزور اسلافه، نظر المولى إلى السماء، مليئة بقطعانٌ من الغيم، مظلمةٌ إلى ما لا نهاية، تلهو بها الرياح بغير زمام لا حروف ولا كلم، البحر يموج وترتفع أمواجه، مياه تكاد تغطي القارب، مياه كثيفة، رياح عاتية،بحّارة يركضون من جانبٍ لآخر يتصايحون، في حيرةٍ من أمرهم، أخذ المولى يقفزمن هنا وإلى هناك، حائراً وعالم النحو مندهشاً، رغم ارتفاع الموج، لم ينزل عينيه من على جُحا. الريح، المطرُ، قعقعةُ السماء البرق الخاطف وقاربٌ في مهب الموج وغيوم تسحُ، تسحُ في لهوٍ وغيض، الماء يملأ كف القارب بقطراته المتوالية غزارةً.

(7)

 بدأت تظهر على جُحا علامات الدهشة الذهنية تصحبها دهشة من الخوف والفزع، فشرع يصف ما يرى ويجول بكلماته ومفرداته في أوصافه للموج، للغيم، للريح في مداراتها، لحوريات البحر، للقلاع الممزقة، للحبال المتطائرة، لقاربٍ مرتجفٍ، والنحوي منصتاً، مشمئزاً، غاضباً، لقد أسرف جحا في تكرار اغلاطٍ نحوية كثيرة أزعجت النحوي، فأحس النحوي بالظمأ القاسي، وأحس في وصف جحا تكرار كلماتٍ ساذجةٍ لا معنى لها ولا تميز بين المرفوع والمجرور وترفع المضاف اليه ولا تجيد التفريق بين التمييز والحال ولا اِسم الفاعل من اِسم المفعول.. لم يتمالك النحوي نفسه وتقدم من جحا والقارب يعلو ويهبط بين الأمواج الهائجة، قال النحوي لكي يحمي النحو من الزيغ: يا أسفي يا هذا النحو وعلومه  ألم أسألك إنْ كنت قد تعلمت النحو من قبل”؟، أجابه المولى مرة أخرى بنبرة مناكفه: لا!، لم تمض ثوانٍ، وبنبرة المنتصر قال النحوي أذكرك مرة أخرى سأعة هذا الهوجان وطيش هذه الرياح وعلو الموج: لقد ضاع إذن نصف عُمرك يا هذا. ازداد الموج علواً وهو يعلو بالقارب ويسفل به، لقد ضاع نصف عمرك يا هذا فالنحو لا يُخاصم..

(8)

توقف جحا عن الإدلاء بما تجود به قريحته الشعرية من أنغامٍ ودموعٍ، دخل في نوبة من الصمت والذهول، ازداد المطر جنوناً، بدأ القارب يخرج عن السيطرة، قعقعة في السماء، بحرٌ يهتز في جنونٍ، ارتفع الموج حتى بدا يُغرق القارب، ضبابٌ يحول الرؤية، عندها تقدم جحا مترنحاً واقترب من النحوي وقد بلله المطر وأغرقه ولم يعد يرى من حوله إلا أقله، وقف مترنحاً ثم سأل النحوي والماء يعب فمه: يا سيدنا النحوي، يا مولانا النحوي: هل تسمعني جيداً، “هات وذنك” أتسمعني جيداً: هل تجيد السباحة أو تعلمت العوم من قبل، أجل أكرّر يا سيدنا العبقري هل تجيد العوم والسباحة؟ أجاب النحوي هو يترنح مهتزاً وقد بلّله المطر والموج في عتمة الدجى: لا، لا،، لم أفعل، لم أتعلم ذلك قط، لا أعرف العوم ولا قدرة لي على السباحة! عجّله المولى بالقول البليل والقارب يسارع إلى الغوص مرغماً مستسلماً: إذن، يا سيدنا لقد ضاع عمرك كله، فالقارب يا مولانا يغرق.

(9)

انبثق من خلف الغيوم والمطر والقعقة وهزيز الرياح صوتٌ حمله المجداف المترنح من فوق الموج: “تثاءب المساء والغيوم ما تزال… تسحُ ما تسحُ من دموعها الثقال”.   جحا ظل يصارع الموج والبحر الهائج، تغريه النجاة وعيشة أخرى على أرضٍ سلمت يداها من الغرق وتعسف النحو، ظلّ يعاند الموج ويشكريده الرعناء أنّها لم تتعلم النحو ساعة الحاجة كانت تكمن في علوم العوم والسباحة..  وعلى اليابسة أيقن أنّ النحو قد جمع بينه وبين الموت والحياة وأقسم بملْ رئتيه لن يعبأ بالنحو قط إذا كان لا يجيد العوم.

مقالات ذات علاقة

في مسألة اللغة والنص والمؤلف

نورالدين سعيد

مقدمة كتاب: على خطى العقيد

عبدالقادر الفيتوري

رقمي # ورقي.. ما الذي يصنع مستقبل الصحافة؟

المشرف العام

اترك تعليق