بحر اللغة (النص) روعته في هيجانه، وتلاطم أمواجه، والمؤلف الذي يرسم هذا البحر، يبحر بالضرورة فوقه، وكذا القارئ يفعل، وعلى كليهما المؤلف، والقارئ، أن يحذر من لذة السبح حتى النهاية، بأن يدرك كل منهما في كل مرة، بُعد المسافة التي قضاها بين الشاطئ وآخر نقطة كان قد وصل إليها أثناء سباحته في لجج خاصرة هذه اللغة، (هذا النص).
في كل الأزمنة الكتابة كائن مخيف، الكتابة تخيف كما أشار رولان بارث في الدرجة الصفر للكتابة، ولكن لماذا صارت هذه اللغة لعوباً وغير بريئة في عصرنا؟
بمعنى آخر، لماذا استخداماتها اليوم صارت مخيفة أكثر من استخداماتها في الأزمنة الغابرة؟
اللغة (النص) في ثنائياتها، في تضاداتها، في صراعاتها كذلك بين هذه الثنائيات، العدل الإحسان، الموت الحياة، الإيمان الكفر، العلم الجهل، العلم التقنية، اللغة النص، الرواية، اللغة الجمال، اللغة عند مسكن الوجود، تفعل اللغة بتسلطها على القارئ ما لم يتوقعه منها، إنها الساحرة التي تزرع الجمال وتخفي السم في آن، بل إن شاءت تنفثه في وجه الاثنين، المؤلف والقارئ معاً.
اللغة في تأثيثها بالجمال المحض، اللغة في تأثيثها بالجمال المرموز، اللغة في تأثيثها بالحِيَّل، واللغة في تأثيثها بالسلطة، ثم منتوج اللغة من خلال كل مقاصدها عبر كل هذه الثنائيات والانثناءات، اللغة في حشوها بالشظايا التي تنفتح على التأويل.
على ركح المسرح مثلاً، ما هي اللغة؟
على شاشة السينما ما هي اللغة؟
ثم ومن جهة أخرى مغايرة:
في الشعر، في الرواية، في القصة، إلخ من حقول الأدب، ما هي اللغة (النص).
ثم متى يتعقم النص لينتج فقط معناه:
في القانون
في الاقتصاد
في الطب، إلخ من الحقول المعرفية.
(قد تتحد) مقاصد اللغة وفق حقلها المعرفي المخصص للقانون أو للطب، أو للمعارف، كيمياء، فيزياء، رياضيات، إلخ من هذه الحقول، عند كل الألسن مع بعض التغير الطفيف في طريقة التفكير؛ لكنها لا تتحد في طرق التفكير عند كل هذه الألسن في تخصصات العلوم الإنسانية، خصوصاً في علم قواعد اللغة نفسه، بالذات عندما ينتج هذا العلم: حكاية، رواية، قصة، أو شعر، أو أي صنف من أصناف علوم النص في المجالات الأدبية؛ الجملة أو العبارة، أو لنقل، تركيب جملة Sintagma، وطريقة التفكير في نطقها بين الألسن بشتى أجناسها، ثم يأتي النص، شكله، فراغاته، تقاطعاته، ما الذي زرعه فيه مؤلفه من شظايا (متقصدة) في أغلب الأحيان، ومتقصدة في كل حين، لكنها منفلتة في أحايين أخرى، كونها فلتت من لا وعيه واستلمتها إشاراتها في دواخل (كنه النص) في غفلة من المؤلف، رعب الكتابة في رأينا، أيضاً يكمن هنا.
وقد يمرق على بعض القراء في النص، لكنه لا يمرق عندما تعترضه الـ Ermeneutica الهيرمونيطيقا أو «التأويل» عند القارئ الذي يشتاق (للكشف) عن أشكال الفخاخ المدفونة في باطن النص، مع الحذر الدائم والأخذ في الاعتبار نوع العقل الذي أنتج هذا النص، وجنسه، أو بمعنى آخر، طريقة التفكير بواسطة اللغة التي أنتجت هذا النص أو غيره من النصوص؛ بالضبط مثل إشارة الحصادي في هذه المحاضرة، إلى بيرجسون، كون أن اللغة تفاريج بين الألفاظ، أو في كونها منبعاً من تفسخات الحالة الشعورية، وتشوهها عند المبدع، والارتحال من مملكة العواطف إلى مملكة الأفكار، التأويل عند بيتي، كخبرات شعورية، عند كروتشة في العلاقات الجمالية بين النص والتأويل، ثم التأويل عند إيكو، في ما لم يقله المؤلف، وغبش اللغة في تعسير التأويل، والتي أشار الحصادي إلى أنها تقف فارقاً في ما لم يقله النص، وما لم يقله المؤلف، قد نستبين قول المؤلف في النص.
وقد نستبين قول النص بما لم يقله المؤلف، متى ما انفلتت اللغة من لا وعي المؤلف، وفي حدود أخرى، يقول النص ما لم يقله مولاه، أين يتحدد التأويل وأين يتقيد، ومتى يصبح ما وراء النص منتجاً، ومتى يتعقم، كل هذا كان في مناقشة عديد من علماء اللسان وعلماء اللغة، من نيتشة إلى كروتشة، إلى بارث، إلى أمبيرتو إيكو.
حياة المؤلف بين غبش اللغة وجنس النص، تبين مدى الاختلاف الكامن في عقل مؤلف ومؤلف آخر، اختلاف لسانه، وجنسه أيضاً، وكذلك جنس نصه ونوعه، وطريقة تفكير هذا المؤلف، باللغة التي يستخدمها، وبين غبش هذه اللغة في كونها دائماً تنتج ما وراءها من تأويل، قد يتفوق عليها وقد يأتي أقل منها، لكنها بألاعيبها في الأغلب، تتعالى على ما فهمناه منها، بكلمة أقترحها هنا، مع أملي أن تكون صحيحة: (تتغنج اللغة بجمال مظهرها) الذي تبطن فيه خلاف ما تظهر، لتنصب لنا فخاخاً، قد تأسرنا فيها، وتغير أفكارنا، ما لم نتفطن لألاعيبها هذه بما تنتجه من «رفرفة» في أغلب تمظهراتها «الجمالية» منها بالذات.