1
تستفيد الرواية بشكل كبير من الواقع وتعمل عليه، ومعها يخرج من دائرته الصغيرة إلى دائرة أكبر، تقدمه وتكشفه، أو ما تعارف عليه بالخروج من المحلية للعالمية.
الرواية في الأساس –أو هكذا أظن- عمل معرفي، مخطط له، ويحاول الروائي بشتى السبل والحيل شدنا إلى عمله، وهو لا يتوانى عن عمل ما يضمن له استمرارنا في السكون إلى روايته، والذهاب فيها أكثر. وإن كنت سابقاً ربطت بين الرواية والاستقرار، فإني اكتشفت أن لكل حالةٍ روايتها، أو أن كل وضعٍ أو حالٍ ينتجُ شكله الروائي الخاص به، أو روايته القادرة عن التعبير، ويظل الكاتب أو الروائي هو الشيء الثابت والمائز في الرواية، حضوره/غيابه، سطوته/ضعفه، هو من يتحكم في أدوات هذا العمل الإبداعي. والرواية الحديثة، لا ترى في تناولها للموضوعات العامة والنزول للشارع، إلا تحدياً حقيقياً لقدرتها على الاحتواء، وإعادة إنتاج مصادرها في مادة سردية أدبية مرتبطة ومحكمة.
في مقالٍ بعنوان (زمن الرواية الليبية)1 حاولتُ الدخول للرواية الليبية الحديثة، ولماذا هو (زمن الرواية الليبية)؟، سمات هذه الرواية، وأسباب سطوع نجمها في سماء الأدب الليبي، وفي هذا المقال، كنتُ قد ختمت بهذه الفقرة: (في اعتقادي الشخصي، إن الرواية الليبية –انتماءً للثقافة المحلية، أو كنص ينتمي منتجه إلى ليبيا- مازالت تملكُ من الإمكانيات الكثير، ومازالت لم تفصح عن نفسها وما يعتمل في داخلها. إنه زمن الرواية الليبية، هي نص اللحظة الراهنة، والمعول عليها. والحاجة لكتابة رواية ليبية جديدة، هي الحاجة للكشف، لإنتاج نص معرفي يمكنه كأثر البقاء والتأثير أكثر. أنا هنا لا أنتصر لجنس إبداعي على حساب آخر. بقدر ما أسجل ملاحظة هي حصيلة متابعة للحراك الثقافي في ليبيا، فهو وإن كان محصوراً في مثقفيه، إلا إن الواجب يحتم علينا الملاحظة.)2.
2
بعد هذه المقدمة، ندخل صلب قراءاتنا لأحد الروايات الحديثة، والتي نشرت مؤخراً لكاتبة ليبية، وهي العمل الروائي الأول لها، مما يضعها ككاتبة أمام اختبار العمل الأول للدخول لعالم الرواية والأدب، وأيضاً، يمنح القارئ الفرصة للتعرف على إمكانيات الكاتبة وجديتها، واكتشاف عوالمها.
الرواية تقع في 136 صفحة، موزعة على 8 فصول. وهذا يقودنا مباشرة إلى نوع الروايات القصيرة، وهو ما يضع الكاتبة أمام رهان صعب، لتحقيق أكثر من شرط للوصول بالنص إلى مسمى الرواية أو تفصيلاً الرواية القصيرة، والتي وتعرَّف بأنها (تعبير يدل على سرد قصصي نثري، يحتفظ بخصائص الرواية الفنية، ولكنه أقصر طولاً مثل؛ كانديد لفولتير، وجانسبي العظيم لفيتزجرالد، والدكتور جيكل ومستر هايد لستيفنسون، والعجوز والبحر لهمنجواي)3. وهذه القراءة هي محاولة للوقوف على أهم الملامح الفنية في هذا العمل، دون أن ننسى كونه العمل الأول، وأنه يحمل ارتباكات التجربة الأولى.
3
لا تهتم الرواية الحديثة بالبحث في التفاصيل أو تصوير الأحداث كاملة، إنما تركّز على زاوية بعينها وتعمل عليها، لذا لا تعتمد على الوصف والتحليل بل افتراضات مضمرة، تخلصت فيها من سلطة المجتمع والقيم، بحيث يكون البطل حرّ الحركة، قادراً على إنتاج منظومته الخاصة. إنها رواية إطلاق العنان للشخوص، أو بمعنى آخر، للروائي أن يحيا بطريقة مختلفة على الورق.
إنها لعبة، الرواية لعبة، وبدون أن يعلم، يتحول القارئ إلى فرد فيها، لا بصفة المشاهد فقط، بل بصفة الفاعل الذي يحاول الوصول للنهاية قبل الرّاوي، وهذا يتعمده الكاتب من خلال شحن روايته وإضافة عناصر التشويق إليها، كما هو الحال في الرواية التي بين أيدينا، فهي رواية اعتمدت التشويق والغموض والإثارة، حتى ليمكن تصنيفها كراوية بوليسية4 بامتياز.
فالكاتبة اشتغلت بجد على حبكة الرواية، واستطاعت برشاقة الانتقال بين أحداث الرواية دون أن تربك عملية سردها له، ضامنة توافق التفاعل الزمني للحدث الأساسي، والأحداث والشخصيات المساندة له، إذ يبدو جلياً اهتمام الكاتبة بها –أي الحبكة-، بحيث رسمت معالم الشخصيات بوضوح، يكفي لمعرفتهم من الزاوية التي أرادتها، وأيضاً سرد تاريخي لكل شخصية يدعم موقفها في العمل. باستثناء الشخصية المحور، ونعني (السّاحر) والذي أخذت صفته عنواناً للرواية، إذ لم تقدم لنا الرواية ما يدعم هذه الصفة –صفة الساحر-، إلا من بعض الإلماحات التي تجعلنا نعرفه صفة ولا ندركه يقيناً، وهو ما يشكك في أهلية الشخصية أو بعدها للدخول إلى اللعبة. ومثل هذا الاختلال ينتج عن غياب لحظي للروائي في حضور الشخصية –بطل الرواية-، فالرّاوية يعرف شخصيته وعلى دراية بتاريخها، مما يجعلها تؤدي دورها أمامنا بثقة تامة.
تقدم “نهلة العربي” للرواية بجملة (عندما يصبح الفساد مجرد رد فعل)، واضعة إيانا مباشرة في حالة صدام، دافعة باتجاه الرواية للبحث عن تفسير لهذه المعادلة، التي يتحول فيها الفساد إلى رد فعل، مما يعني تقنينه أو إمكانية التحكم به ليساوي الفعل الذي نجهله لحظة قراءة الجملة، وحتى الجملة الأخيرة في الرواية، التي تؤكد محليتها (ليبيّتها) شخوصاً ومسرحاً وتاريخاً. الفساد كظاهرة أو حالة لم تترك زاوية في المجتمع الليبي إلا ودخلها، للحد الذي صنفت معه ليبيا من أكثر الدول عالمياً فساداً، حتى إن لم تتصل به مباشرة ستجدك واقعاً في أحد خطوطه أو شباكه، وعليك لحظتها التعامل معه؛ إما بقبوله، أو احتماله، أو رفضه. إنك أحد هذه الحالات الثلاث التي روتها “نهلة” وبنت منها حكايتها وشخوصها، وهي الزاوية التي ركزت عليها الكاتبة دون تفاصيل الحكايات الجانبية.
خمس شخصيات محورية، تميز فيها “الساحر” بدور البطولة أو الشخصية الأساس، تسانده “جميلة” التي كانت شرارة الرواية والأحداث، ظاهرياً. تتمحور القصة حول عمليات فساد كبيرة في أحد المستشفيات، حرمت الكثير من المرضى فرصة العلاج الصحيح والدواء، ليجد “الساحر” نفسه داخل في هذا العالم بواسطة “جميلة”، التي تفرش أمامه الحقيقة، وتتركه ليقرر أن ما يأخذه الفساد، يرد بمثله، محققاً معادلة “نيوتن” الشهيرة: (لكل فعل رد فعل، مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه)5.
4
ولأنه العمل الأول، فإن الكاتب/الكاتبة يهتم أكثر بالحدث الأساسي أو ببنية الرواية الأساسية (الخط العام)، بالتالي ركزت الكاتبة أكثر على الحبكة حتى لا يهرب خيط الحكاية، مما انعكس سلباً على الرواية سردياً، وبالتالي أسلوبياً.
السرد متن الرواية، وأسّها، وهو أدارة الروائي لإنتاج عمل سردي يمكنه إذابة مفردات الرواية في نسيج متوافق. وفيما يخص (الساحر)، جاء السرد عادياً وغير غني، لم يكن ثمة اشتغال على هذه التقنية، فاللغة جاءت مباشرة، بقصد النقل والتصوير، بالتالي اهتم السرد بنقل المشهد مجرداً، فاللغة تعمل باتجاه واحد، أي من المرسل للمستقبل مباشرة، بحيث لا نجد أي جهد لإنشاء منظومة لغوية أو دلالية تفيد في إنتاج منظومة سردية للنص، أو تعويل حقيقي عليه، فجاءت بعض المقاطع تقريرية، أفقدها العمق المطلوب، خاصة فيما يتعلق بالرّصد والتفاصيل، التي يحبذ الراوي الإسهاب فيها أو مراوغتنا ومخاتلتنا فيها، وهو ما انعكس في إيقاع الرواية، الذي جاء ثابتاً، تفاعلت تحته لحظات الرواية بذات المستوى من الأداء والحركة، وهو ما يعطينا إيحاءً بأن العمل نمى خارج ذات الكاتب الفنية، وهو نتاج حاجة لكتابة عمل روائي، لهدف أو غاية. فنحن مثلاً لا نلمس روح الكاتبة في النص، ولا تعاطفها مع الشخصيات، إذ نفتقد روح الأنثى الحكّاءة والتي تتعاطف وتجد نفسها باكية في لحظات الضعف. الأمر الذي أفقد النص الكثير من قدرته على التأثير العميق في المتلقي. وفي ظني إن الرسالة التي أرادت الكاتبة إيصالها، والتي قدمتها من خلال جملة (الفساد) هي ما أثر على النص، بحيث سخرت أدوات الرواية لخدمة هذا الهدف وإظهاره. وفي ظني إن (الفساد) و(المجتمع) كثاني يحتاج عملاً روائياً مكتملاً، بمعنى ألا يمكن تناول هذه الموضوعة في (رواية قصيرة)، الأمر الذي يضع الروائي أمام مفترق الطرق؛ الموضوع أم الرواية؟، والكاتبة بنية مبيتة اختارت الموضوع، في حبكة بوليسية، واشتغال مشهدي. وبالإشارة لموضوعة السرد، نرى إن اجتهاد الكاتبة في رصد اللحظات العاطفية، ومستوى العاطفة العالية الذي تجمله، وشفافية اللغة وجمال الرصد، إلا إشارات لقدرتها على صياغة لغتها الخاصة وأسلوبها سرداً.
“نهلة العربي” في روايتها (الساحر) استطاعت سبك حدوثتها بعناية واقتدار، وعولت على قضيتها في تقديم الفساد، بصورة مختلفة، فيها الفساد ممارسة وفعل، ورد فعل. إن نجاح الرواية موضوعاً لا يفقدها قيمتها كعمل روائي ليبي، واضح التأثر بمحيطه.
_______________________________________
1- رامز رمضان النويصري (زمن الرواية الليبية)، الشمس الثقافي_ العدد:49_14/06/2010.
2- المصدر السابق.
3- إبراهيم فتحي –إعداد (معجم المصطلحات الأدبية)، المؤسسة العربية للناشرين المتحدين- تونس 1986. (ص 185).
4- الرواية البوليسية لا شرط أن يكون للشركة أو البوليس طرفاً، إنما من الضرورة تظافر عناصر: الحبكة أو الجريمة والتشويق والإثارة والغموض.
5- قانون نيوتن الثالث.
نشر بصحيفة فبراير – العدد 581 / 5-12-2013