النقد

محمد الأصفـر ومحكي المغـامرة

محمد معتصم / المغرب

1/ لقد هيمن على السرد العربي الليبي الإبراهيمان: إبراهيم الفقيه، وإبراهيم الكوني.وكل منهما فرض اسمه من خلال عمله خارج الحدود الإقليمية. لكن نكاد نجهل الكثير عن الحركة الثقافية المعاصرة والأصوات الحديثة في ليبيا. ولعل البحث عن الأسباب يسوقنا باتجاهات افتراضات كثيرة أغلبها موضوعي. وتعرفه البلاد العربية عامة باستثناء دول قليلة جعلت من الثقافي أحد مقومات نهضتها التنموية. وبالتالي خلقت لذلك قنوات توصيل عديدة ومتنوعة.

ويصبح اليوم من الضروري الارتباط بالشبكة الإلكترونية، الإنترنيت لفك الحصار عن الطاقات الإبداعية العربية. ومن ثمة الحكم لها أو عليها واستكمال دائرة المعرفة بالمخيلة العربية المعاصرة وطموحات شبابها المتطلع إلى ابتكار وارتياد عوالم غير مطروقة.

2/ وعبر الإنترنيت تعرفت على عدد من الكتاب العرب من مختلف الأصناف والمستويات والاتجاهات، لكن ما يوحدهم الرغبة في التعبير عن المكامن وإثراء الساحة الثقافية العربية بإبداعاتهم وبأفكارهم التي لا تهادن بل تراهن على التغيير وخلخلة المتكلس في الوعي والمتخيل العربي المدرسي.

من بين الكتاب الليبيين الذين تعرفت عليهم محمد الأصفر. وهنا قراءة في روايته الأولى “المداسة” الصادرة عام 2004م، في 191 صفحة موزعة على جزأين: “قدرية” و” آمال”.

أول الملاحظات الهامة تتمثل في موضعة الرواية في سياق الاشتغال السردي العربي، ومن ثمة يمكن الحديث عن التيار السردي العربي السير ذاتي، الذي يمنح السرود الروائية بعضا من مقوماته كالبوح والتدفق السردي، والاعتراف، وإقحام الأنا الساردة في صلب الأحداث، لنزع الفروق البائنة بين الكاتب والسارد، والشخصية الروائية. ولا يعني هذا أن الرواية التي نتحدث عنها سيرة ذاتية بالمعنى الأجناسي. ويمكن التمثيل في هذا السياق بروايات إدوار الخراط، ومحمد برادة، وواسني الأعرج… وروايات جديدة كتبها كتاب شباب، وجدوا في التيارات السردية المتدفقة إمكانية لتفجير طاقاتهم المتخيلة، وإمكانية الخروج عن الترسيمات السردية المقننة والصارمة التي تخضع للتراتبية الزمانية والتطور المنطقي والمعقول للأحداث المتخيلة.

الملاحظة الثانية أن رواية “المداسة” هي الرواية الأولى للكاتب، وللرواية الأولى خصوصياتها المميزة. ومنها، وهذا ما نجده عند محمد الأصفر، رغبة الكاتب في قول كل شيء دفعة واحدة. لذلك نجد وراية المداسة قد وقعت تحت رحمة الأحداث السياسية الحديثة التي هزت كيان المجتمعات العربية والغربية، وغيرت القيم أو أنها وضعتها موضع التساؤل. وهذا ما جعل، في نظرنا، الجزء الثاني “آمال” كثير منه حشو وكان من الممكن التخلي عنه. وأن الرواية بزخمها وتدفقها وتماسكها وانسجام  مكوناتها يقف عند الجزء الأول المعنون “قدرية”، ولا يتخطى حادث قتل قدرية من قبل “الذي أنجاه الله”، حتى تظل آفاق التلقي مفتوحة. من ثمة بدت لنا حكاية آمال والزعفران مقحمة، ولا تندرج ضمن مفهوم “التوسيع” الذي استعمله جيرار جينيت. لأنها لا تطور أحداث الحكاية الأساسية بل تخلق لنفسها مسارها الخاص، أي حكايتها الموازية رغم بعض نقاط الالتقاء البسيطة لكن غير القوية والمقنعة. والسبب في رأينا يتمثل في قتل الشخصية المحورية في الحكاية “قدرية” وسجن “محمد”.

3/ باستثناء حكاية آمال، يمكن القول بأن رواية محمد الأصفر “المداسة” تمتاز بخصائص كتابية مميزة ما تفتأ تجذب إليها الكتاب الجدد. وبالتالي تخلق لنفسها تيارا سرديا عربيا خاصا. ومن ثمة سنحاول في ما يلي إبراز المظاهرة التي احتفلت بها الرواية.

1.3/ الحبكة العاطفية: حكاية رواية المداسة بسيطة في ذاتها، فهي تحكي عن شاب قادم من ليبيا إلى مدينة مراكش المغربية، واسمه “محمد”. لا يحكي قصته، وقد جعل منها محفزا وأداة تشويق دون أن يرويها تماما. ولا يحكي أسباب قدومه إلى المغرب، باستثناء ما جاء في نهاية الرواية وهو يجيب على أسئلة المخبر/المحقق (183):

” – ما الذي فعلته هنا حتى تغادر وطنك ولا تعود؟..

أجابه أبي:

– لقد أحببت..ووجدتها قحبة..”. وهو جواب لا يفهم إلا كرد فعل موجه ضد الاستنطاق.

لمحمد مميزات جسدية، وفكرية، وسلوكية لا يتبرز إلا بعد لقائه بالفتاة التي ظل يحلم بها طوال سفرته. الفتاة التي شغفها من خلال القصيدة الشعرية التي عثر عليها مبتورة، بلا اسم صاحبتها وتحمل عنوان “الفلامنجو”. من هنا منطلق الحبكة ومدار الحكاية.

فقدرية قدر محتوم، وتعلق محمد بها دفعه إلى اختيار السرد المتدفق، والحكي الملتاع الذي لا يفصل بين الوصف والسرد، بل يمزجهما في حال من الوجد والانجذاب. وكأن السارد في رقصة دراويش يحكي ويعيد عن فتاته ملهمته مدار وجوده “قدرية”. ومن الكتاب العرب الذين طوعوا هذا النمط من السرد ومن الحبكات العاطفية عبد الرحمن منيف في “قصة حب مجوسية”، وإدوار الخراط، ولكن الروائي الجزائري واسيني العرج في روايته “سيدة المقام” استطاع أن يوظف الحبكة العاطفية لإبراز القضايا المحزنة والدامية التي شهدتها الجزائر. وهناك تقارب، مع الفارق، بين مبتغى رواية الأصفر ورواية الأعرج. فكلاهما يسعى لتعرية الواقع المحلي عند الأعرج، والدولي عند الأصفر، وفضح أهدافه وغاياته غير الإنسانية. وكلاهما جعل من السرد تدفقا والتياعا، ومن المعشوقة محورا للوجود، ونقطة صغيرة للتعرف على العالم الكبير والواسع والمركب؛ مريم الأعرج وقدرية الأصفر.

2.3/ الجنس: في عوالم محمد الأصفر المتخيلة يبدو العالم جنة أرضية، تحلم بفتاة العمر فتجدها تنتظرك على الدرج الخامس من باب عمارة مراكشية، وأنت في أقصى حالات الإحباط والإفلاس. وتسافر طولا وعرضا. وتمارس الجنس في الغابة وكل النساء، الأم وابنتها.

والجنس في الرواية بارز ويدعوك للتفكير فيه كمكون من مكونات الخطاب الروائي في “المداسة”. وهو موضوعة سادت الروايات العربية إبان الثورة على الإيديولوجيات الأخلاقية من أجل خلق أخلاق بديلة. أخلاق تدنس المقدس وتهتك حجب السياسة والدين والجنس. وقد كانت روايات عربية قد اختارت الجنس ذريعة لكتابة هامش الواقع والحياة الاجتماعية، والمناطق المظلمة في الخطابات الروائية التقليدية التي تتحاشى الخوض في الموضوع وتغرق في رومانسية حالمة وظلال وآهات الحب العذري.

فكيف وظف الأصفر موضوعة الجنس؟ لقد اعتمده للتعبير عن فكرة المشاع. كل الناس سواسية وفي ممارسة الحب يتوحد الإنسان وينصهر. وقد ميز بين نمطين من الجنس الأول والسائد في الخطاب الروائي للمداسة وهو حب روحاني يذوب فيه الجسد من اجل الوصول إلى الروح. فالحب الجسدي ليس موضوعا لذاته بل مطية لغايات سامية وهو المتمثل في العلاقة الإنسانية والعاطفة القوية بين محمد وقدرية. والحب الأرضي المادي والشاذ الذي تمارسه إيزابيلا على العمال المغاربة والعرب، وكذلك بهيجة التي لم تتورع في مناوشة ومراودة قدرية عن نفسها.

3.3/ رواية الرحلة: يمكن اعتبار رواية المداسة رواية المغامرة والرحلة. مغامرة الذات للتعرف على حقيقتها الغائبة. ورحلة سفر في مدن المغرب من الجنوب نحو الشمال. وقد اختار الكاتب هذا الاتجاه لتحقيق غايات أهمها نقل معرفته الثقافية إلى القارئ وبالتالي ملاقاة محمد شكري مثلا في مقبرة طنجة، والانعطاف نحو أصيلة ومهرجانها السنوي الصيفي. وهناك اختار السارد أن تفصح قدرية عن هويتها الشعرية وأن تعلن أنها فتاته القدرية التي بحث عنها طوال سفرته الروحية والمكانية. والشيء نفسه يقال عن مدينة مراكش المغربية التي وقف عند ساحتها الشهيرة، ساحة جامع الفنا التي يعترف بها اليوم كإرث إنساني، وموطن الحكاية الشعبية والشفهية.

ولمدينة طنجة مهمة أخرى تتمثل في الوقوف عند أخطر ظاهرة اجتماعية واقتصادية وإنسانية عرفها التاريخ المعاصر والحديث؛ إنها ظاهرة الهجرة السرية أو قوارب الموت كما تعرف عندنا بالمغرب. ومدينة طنجة معبر محمد وقدرية نحو قدرهما الجديد: قتل قدرية على يد من أنجاه الله، وساعدته قدرية على الخلاص من بين براثن الموت غرقا. وسجن محمد بعد المعاناة ثم الخلود إلى العزلة والتأمل والكتابة. لتبدأ رحلة آمال والزعفران.

4/ إنها رواية المغامرة والرحلة. بث فيها السارد معرفته الثقافية، ونشر فيها عبير روحه التواقة إلى الحرية، وإلى التعايش السلمي بين كل الأجناس والديانات السماوية والتعاليم الأرضية. والاعتزاز بأمجاد الماضي العربي، وفتوحات طارق بن زياد. يقول النص:” الله يرحمك يا جدي انظروا إلى هناك وأشار بسبابته..لا تخف سبابتي تشير لأصدقاء..ليسوا لصوص رفاة أو مومياءات..يقولون إن هرقل باعد بين ضفتي جبل طارق..ولم يوسعه أكثر خشية تسلل الإفريقيين..لكن جدي (طارق) عبره رغما عن أنف أكبر هرقل..نحن أقوياء نحرق مرافئ العودة ونرمد المراكب..ونهفو إلى الجديد البعيد..” ص (70).

وأهم ما اعتمده السارد في شد وثاق القارئ سر حكاية محمد. الحكاية المؤجلة. يقول النص:” كانت حكاية الولد الليبي تطرق رأسها..ما حكايته بالضبط كيف جاء إلى المغرب؟..بوحه هكذا الأيام خباءة زاد طلسمته وعمق غموضه..هو لم يحك لي وأنا لم أسأله..وإذ استشعر إحساسي بعدم كفاية أبحوحه حتى ربت علي وصبرني بنظرة انتظار صحيح إن أبحوحه أمتعني، وجعل تعلقي به أبديا. هو يجهل أني شاعرة تمزقني كلماته..تضيئني قناديل حروفه..آه من نيرانه هذه.” ص (58).

وهي رواية منسابة تتدفق فيها المشاعر العاطفية والإنسانية بيسر. ويقربها ذلك من المناخ الشعري. ولذلك اختار الكاتب لفظ القصيدة أو الشعر كلما كان الحديث يتعلق بالمواقف الحميمة. واختار قدرية شاعرة مفتقدة قادمة من موطن الجبال والطبيعة الخضراء سلطنة عمان، تواقة للبانها، غواصة في البحار وسباحة ماهرة. تنضح فتنة وجمالا. تجمع بين مشرق الأرض ومغربها. حكايتها تختزل تاريخ أمة. وتختصر المسافات الجغرافية.

من مميزات “المداسة” لغتها الحكائية هاته. والتي سبق أن اصطلحنا عليها بالحكي الملتاع عند الناقد والروائي المغربي محمد برادة في روايته “لعبة النسيان”.

 _____________________________________

 * محمد الأصفر. المداسة. مركز الحضارة العربية.ط1. القاهرة 2004.

سلا/10/08/2005م .المغ

مقالات ذات علاقة

تأملات في الأدب الليبي المعاصر وگلمات بضفائر الشمس

المشرف العام

“عايدون”… رواية تحكي عن ليبيا اليوم

المشرف العام

«زرايب العبيد».. الألم يحاصر القارئ

المشرف العام

اترك تعليق