الطيوب : حاوره / مهنّد سليمان
السفر فكرة جنينية تمر بمخاض الولادة وسط صيرورة الكون فلا تنفك أن تعلن عن ذاتها مع شروق شمس الأصيل وتُكرر النداء المُلِّح عند الغروب ذاك الوداع الذي نُحبّ، إنه المدى الوسيط ما بين خطوة وخطوة بل لعله المِداد وغُبار اتساعه اللامتناهي، فالطريق هدف مصاب بحُمى المحنة وإيقاع زمن يُثقل هزيمته ظل المار من هناك يقول أحدهم : مرّ كألوان الطيف تُغشيه الحكمة، وحين تتحول خِفّته يتوحّد مع قصيدة الكون، نعم إن أعمال الفنان العالمي “معتوق أبوراوي” تساوي قصيدة أدركت محدودية اللغة باكرا قبل انتصار التاريخ لأبناء وأحفاد دونكيشوت فسبقتها كي تُبرهن على صوتها الوثّاب داخل كهوف تاسيلي ووادي متخندوش ومساك، هل تقول اللوحة كل شيء ؟ تُرى ما كُنه هذا الشيء ؟ متى يُفسّره الزمن ؟ ولماذا نترك للزمن رفاهية تفسيره ؟ أين نحن؟ لم لا نتقدم ؟! المتذوّق العارف سيقف مسافة دهشة أمام أعمال الفنان “معتوق أبو راوي” فكل لوحة تثير بصيرة (أنا الكون) وحكمة الشيخ الذي أشار نحوه يقينه بالقول -ها هنا-، حيث المكان والزمن والصوت وصدى مشية الآخرين جزء من الكل الأعظم لدى لوحات أبورواي…دعونا الآن نشد اللجام لنكتشف ما وراء هذه التجربة.
بادئ ذي بدء، كيف تختمر فكرة اللوحة لديك؟
فكرة اللوحة هي تمثل تجارب تراكمية تبعا لسيىاقها الظرفي والمكاني والمعيشي والثقافي، وانتقالي من ليبيا إلى إسبانيا منذ 25 عاما تقريبا كان له تأثير عميق وإيجابي حيث تسنى لي الإطلاع على جملة من الأفكار المختلفة والتجارب المتنوعة، وكان للتأثير الأندلسي طابع يحمل خصوصيته، وهناك تجددت الأفكار، فمثلا فكرة المهاجرين الأفارقة اللذين يجازفون بحيواتهم ويركبون عُباب البحر وهم قاصدين أوروبا، ومن هذا المنطلق تأخذ الفكرة مسارها (باسكشات) بسيطة من خلال تصوير وتخزين لقطات محدد يختزلها الذهن ويُمررها لمساحة واسعة من الوعي، ومن ثم تُنقل على ورقة صغيرة ليتطور السياق إلى لوحات عبر عدة شهور وأحيانا سنوات حتى تفترغ تماما مراحل تنامي الفكرة، وبنفس الألية والفكرة يتم الانتقال لمرحلة أخرى.
هل تُقبل على اللوحة وأنت مُحمّل سلفا بالفكرة ؟
التشكيل يوازي فعل الكتابة بأن يُقبل الرسام على مشروعه الإبداعي وهو مزدحم بأفكاره وتصوراته وهمومه الشخصية، والمحيط الاجتماعي والمناخ العام يُحمّل الفنان التشكيلي بالضرورة بالكثير من الرؤى التي تجعله مندفعا بقدر من الشغف نحو انجاز لوحته الفنية، ويظل هامش التجريب نواة أي عمل تشكيلي بعبارة أدق الفنان ينتقي ويختار عدة (اسكتشات) ومسوّدات فينكبّ على عمله بفكرة محددة، وعلى سبيل المثال اشتغلت على وقع الربيع العربي وتداعياته في لوحاتي عقب عام 2011 فاهتممت بفكرة المأساة التراجيدية التي عاني منها المواطن بمعزل عن الحكومات والنخب السياسية الحاكمة.
ما بين طرابلس وغرناطة كيف حققت المعادلة في تجربتك الفنية؟
بداية أنا من مواليد القرابولي لكنني عشت ردحا من حياتي في مدينة طرابلس، والكثير من نشاطاتي الثقافية والفنية بطرابلس بالإضافة لعمل في مجال التدريس الجامعي، وتعد مدينة غرناطة بمثابة كُوّة الإلهام بالنسبة لي فلازلت أحتفظ بمرسم هناك، كما أحرص على الذهاب إليها كل عام أمضي بضعة أشهر بهدف الإنجاز الفني، أما طرابلس فقد شكلت لي بيئة جيدة للرسم، وبخصوص المعادلة فهي مكانية صرفة ولعل ذلك تجلى بطرح فكرة إسبانية جسدها معرضي الأخير (أحلامي في غرناطة 2) الذي رغبت في أن أُطلع المتلقي الليبي على تجربة الفنان الليبي في غرناطة، ومقابل هذا إيصال إنطباع للإنسان والفنان الليبي حول خيال فنان ليبي عاد من مدينة غرناطة بأفكار تحمل صبغة ذاك المكان.
أين تقف حدود الأفكار إزاء توهج اللون في اللوحة التشكيلية ؟
في حقيقة الأمر لطالما تشغلني مسألة البحث عن فكرة ما أو فكرة تؤثر فيّ أو وضع حياتي محيط امتلك سلطة التأثير،وبحثي ينصب حيال شيء ما داخل اللوحة من الناحية التعبيرية، وأنا كتعبيري دائما أُعبّر عن مأساة معينة فرح أو حزن وفق طريقتي الخاصة، ولكن هدفي هو اللون في اللوحة التشكيلية بمعنى تطور اللغة البصرية فيما يتصل بعملي التشكيلي.
برأيك انفتاح اللوحة على التأويل ينقذ العمل من سطحية المباشرة؟
على العكس تماما فكلما انفتحت اللوحة على التأويل نجح العمل الفني كقصيدة شعر كلّ يفهمها ويتأثر بها بشكل، فهذا لا يُفسد للود قضية إطلاقا.
متى يمكن تبيّن ملامح المكان في اللوحة ؟
ملامح المكان في اللوحة أعتقد بأن معرضي الأخير (أحلامي في غرناطة 2) يُبرز تمثلات هُويّة المكان أمام المتلقي إلى حد كبير فالتأثير الإسباني مكثف عبره، باعتباري مقيم بإسبانيا.
هل لعبة الألوان والظلال تراوغ ذهنية المتلقي؟
نعم هذا الأمر يدخل في حدود البداهة المنطقية بكل تأكيد فإنما العمل الفني يتكوّن من ضوء وظل، وبالتالي حتى إذا جاء اللون بثنائية، الأبيض والأسود يُعتبر مُلوّن.
أتجد من الضروري أن يكون للفن رسالة ما ؟
هذه المسألة متوقفة على ماهية الرسالة ؟، فشعوبنا قد اعتادت على الأعمال التراجيدية ومواويل الحزن، والأغاني العاطفية الجيّاشة، ولكن في مناطق أخرى بأوروبا نجد اختلافا ثقافيا ملامح هذا المضمون فأحيانا رسالة الفن تكون نوع آخر لا نُدركه للوهلة الأولى، مثل رسام شهير يهوى رسم الورود كيف ستكون رسالته؟ أكثر من التعبير عن العاطفة والحب البسيط، وهو أمر مشروع، إنما على المقلب الآخر لاسيما في منطقتنا المليئة بالقلاقل السياسية وعدم الاتزان تسودها الأجواء الملبدة والملوثة سياسيا واجتماعيا ما ينعكس على فنانينا وشعرائنا فتجيء طريقة التعبير متصلة وبرسالة أكثر وضوحا
النزوع الصوفي أحيانا يطغى على بعض أعمالك، أيهما يدفعك أولا الفكرة أم خصوصية البيئة ؟
بهذا الخصوص أعتقد بأن الفكرة دائما هي دافعي الأول، والفكرة في هذا الصدد داخلية بمعنى آخر ما أشعر به من الداخل وليس من الخارج، ففي مدينة غرناطة أبحث عن أشياء ولا أجد في الشارع ما يمنحني شيئا بواقع أشد عمقا.
كلمة أخيرة:-
ختاما أتمنى أن يكون معرض (أحلامي في غرناطة2) قد نال حظا من استحسانكم، ويُسعدني التواصل بصورة مباشرة مع المتلقي الليبي، وهذا المعرض انتقل من غرناطة إلى الأرجنتين ومنها إلى طرابلس ليعود لاحقا إلى غرناطة.