كوثر الجهمي
في سنّ مبكّرة، اعتقدتُ أني سأصبح رسّامة، ولشدّة تأثري ومتابعتي لمجلات الأطفال، كنت أحاول مجاراة الرسامين فيها، وأحاول إتقان رسم الشخصيات والمشاهد.
لم أكن ألحظ انجذابي لرسم المشاهد القصصية بشكل خاصّ، كنت أعتقد أن هذا هو الرسم، أن أرسم مواقف ومشاعر مررتُ بها أو حدثت أمامي؛ طفل يقف على الشاطئ، يغريه البحر ويثير خوفه في آن، فيقف على أعتاب أمواجه حائرًا، رحلة مدرسية إلى حديقة، يظهر سقف الباص الذي أتى بهم خلف سور الحديقة، فيما تقف فتاة صغيرة باحثة عن البقعة المناسبة للجلوس.
أو كما يظهر في الصورة المرفقة؛ تقاطع شارع تهطل فيه الأمطار، موضوع الدرس كان فصل الشتاء، وتقف عند مفترق الطرق فتاة غاضبة لأن السيارات لا تسمح لها بقطع الشارع (الفتاة التي تضع يدها على خصرها، لغة الجسد التي تعبر عن تأففها)، لم تفكّر المسكينة، أن وقوفها بعيدًا عن الخطوط البيضاء ربما يكون السبب وراء محنتها! هذه الرسمة فازت في مسابقة مجلة الأمل عام 1993، كنت قد رسمتها في العام السابق له، وعمري 8 سنوات، لم أكن أعرف آنذاك أن ثمّة فنًّا يُدعى رواية القصص.
بعدها بعامين، حين كنت في العاشرة، ولسبب غير واضح، قررت تأليف قصة مصورة، أذكر أني بقيت أياما أقسم كل صفحة من كراس الرسم إلى مربعات، وأحيانا مستطيلات، وفق ما يتطلبه المشهد، وأقرر محتوى كل مربع، وكيف ستنتقل أحداث القصة بين مربع وآخر. وأذكر جيّدًا أن أحداث القصة كانت في لبنان (لا أحد يسأل لماذا فأنا لا أعرف)، وأنها عن فتاة تعترف لها أمها لحظات احتضارها بأن أباها على قيد الحياة، فتبدأ رحلة بحث البنت عن أبيها من مدينة إلى مدينة، استعنتُ بأمي لأعرف أسماء المدن اللبنانية الواقعة على الساحل، فقد ارتبطت القصة بالبحر.
لا أتذكر أني وضعت لها نهاية، فقد أخطأتُ بعرضها على معلمة الرسم، التي أعجبت بها، وأخذتها مني كي تلونها بألوان “خاصة”، وتشارك بها في معرض المدرسة. لا داعي للقول، أن القصة اختفت، والمعلمة ظلت تماطل حتى خجلتُ من إلحاحي، ولم أرها في معرض المدرسة، وأتساءل الآن: تراها احترقت في أي مكبّ؟ ذكّرتْني بها صديقتي “رواد” التي جمعني بها الفيسبوك بعد سنوات طويلة.
هذا كله وأنا معتقدة اعتقادًا راسخًا أني رسامة لا غير، بدأ الأمر ينحى منحى أكثر وعيا إزاء شغفي بالقصص في المرحلة الإعدادية، حين قرأت “جين آير” و”نساء صغيرات”، و”أحدب نوتردام”، و”الأرض الطيبة”، وبدأتُ أدرك أن ميلي للرسم هو ميل نحو رواية القصص بشكل مصوّر أكثر منه ميلا حقيقيًّا لرسم المناظر أو التشكيل، رغم أني لم أتوقف عن الرسم، وقد سيطر عليّ في تلك الآونة رسم الشخصيات الكرتونية، فقد كنت أتبادلها مع صديقتي المقربة “سلمى” التي تجيد الرسم أكثر مني.
وعرفتُ مبكّرًا أن القصص والروايات شكّلتْ وعيي بالمعايير الأخلاقية والقيَمْ، وأنها عززتْ شعوري بالتعاطف، وفتحتْ عقلي على تجارب العالم الكبير، وفي مراحل متقدّمة، سأعرف أن الروايات والقصص تحديدًا هي ما نمّى لديّ القدرة على النقد والتحليل لما يجري من حولي.
ثمّ يخبرونك ألا فائدة من قراءة القصص والروايات، ولو كانت بلا فائدة لما احتواها القرآن الكريم بين دفتيه، حاملًا لنا دروسًا عظيمة في قصص الأنبياء والصالحين.
يتبع..
“عُصبة المؤلفين”، الوصف مقتبس من “دوروثيا براند”