من هناك حيث الواحة القابعة احضان قفار صحراء مجدبة ، والكساد الممل الذي خيم عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية ، وتعرض الناس الى ما يشبه المجاعة ، وبات ما بقي من زاد لا يسد رمق الجميع ، ولا يحول دون الموت ، حان موعد الرحلة الى الشمال ، حيث العاصمة طرابلس ، وحي بومشماشه ، ومحطة ” ديبوستو للغاز ” ، ومدرسة عصمان ، وجامع الباشا وحلقات مصطفى معروف ، ومجموعة من الحناطير تجرها الخيول تقف قريبا من الزقاق . وفتيات في غاية الاناقة والجمال يملأن المدينة ، ويغشين شوارعها الفسيحة ، في طريقهن الى المدارس . ومنزل صار فندق مجاني للقادمين الجدد من اهل القرية بحثا عن فرصة عمل . او مراجعة امور ادارية وعلاجية.
فرغت شركات النفط من التنقيب والحفر وجهزت المواني البحرية ، وشرع في تصدير النفط ، واحتفال بالمناسبة في الذكرى العاشرة للاستقلال ، وملامح التغيير بدأت في الظهور ، السيارات الفاخرة ، تصاميم المساكن المرفهة ، اماكن اللهو ، شركات مساهمة ، تسهيلات مصرفية ، وغموض يلف مقتل احد الضباط ذوي السمعة الطيبة ، وما يمور في العمق من صراع غير مرئي ، وانتقال تبعية منطقة الجفرة للجنوب ، وصراع على اشده بين الحكومة الاتحادية وسلطات الولاية ، ودول تسعى لإضعاف نظام الولايات تمهيدا لإلغائها ، وعين على فزان القنيص المشبع . وكثيرون لم يخفوا حقيقة ان الوحدة ما بعد الاتحادية مسألة فوقية ، ولم تعد بذات الطعم القديم ، والعالم يتجه نحو اللامركزية ، وببساطة تبدو مسألة تخص شركات البترول ، وتزامن كل ذلك مع الانفصال الوحدوي ، وحواديث ” المرابيع ” عن تفجر الثورة اليمنية بدعم مصري ، ورؤى تعتقد انه الحدث لن يمر بسهولة ما دام سيف الاسلام البدر على قيد الحياة وقد اعلن نفسه خلفا لوالده . ورؤى اخرى تصر على رفض اي تدخل خارجي ، مهما كانت الخلفية السياسية عربية قومية او ماركسية لينينية ، او اسلامية.
حواديث ” مقهى عبدالله ” بشارع الوادي ، التي ذهبت الى ابعد من ذلك ، الى ولاية العرش الفاقدة للسند الدستوري ، اذ الجمعية الوطنية حصرت الولاية في اصلاب الملك وليس ابناء اخيه . وامتعاض من التعديلات الباطلة التي اجراها مجلس النواب .
صخب المشهد الاعلامي وهامش جيد للتعليقات الاذاعية ، وتخفيف لهجة الدعاية الصارخة ، ومواقف من امور داخلية اكثر تماسكا ، واقل تهالكا على المدح المبتذل ، وإنشاء الفرقة الوطنية للفنون الشعبية ، وفرقة المألوف وإسناد ادارتها للفنان القدير محمد مرشان ، وإصدار سلسلة الكتاب الليبي ، وبدء منح تراخيص للصحف الخاصة ، وإعطاء الفرصة للعناصر القادرة ، وشيء من المماطلة رغم قرار المحكمة العليا بمنح اذن المزاولة ، وموجدة من حكومة عجزت عن التحلي بالمصداقية ، تتلكأ في اتمام اجراءات الترخيص لممارسة حق كفله الدستور ، ومقالات تحمل حكايات خادشة للحياة السياسية : ” حكاية الشجرة ” .. تلك النبتة القديمة المستقدمة من وراء البحار ، وكيف اثرت ولا تزال تؤثر على بعض الاشجار المحلية المفيدة .. ” حكاية امي ” وخمسة ابناء يديرون الاسرة ، من اوكل اليه امر الولاية ، ومن هو قائم على تأجير املاكها بشروط مجحفة ، ومن يمارس انشطة غير مفيدة ، وعندما اخفقوا جميعا وجاء الابن السادس الغائب لدهر خارج البلاد ، والأكثر تعليما، والتعويل عليه في انقاذ ما يمكن إنقاذه ، وخشية من صدق المثل الشعبي : ” منين ها العرف .. من ها الشجرة ” . قيل يومها ان اللمز والهمز ينال من الاسرة المالكة ، وذهب الظن الى ان الكاتب ليس هو من خط السطور ، بل كان مجرد واجهة لعناصر بنادي الاتحاد ، وأخرى بوزارة الانباء والإرشاد ، وحوادث الاصطدام بين الطلبة وقوات الامن ، ونشوب خلاف حاد بين ولاية طرابلس والقيادة العامة للأمن .
عود على بدء ، وحفريات في ذاكرة القرية المهجورة منذ زمن ، وقصة انتظار لحظة فرح ، بعدما شاب الراس ، واحدودب الظهر ، وقصر النظر ، واستغراق في التفكير والتدبر ، وصمود امام غائلات الزمن . مستشعرا الخجل ، محاولا ان يخفيه بمشروع ابتسامة . تحاصره عوالم القلق . والجارة تبعث بماعون معبأ برطب التامج . والميل نحو الغواية ، ومتى تقام مراسم الفرح . ويقدم لها المهر ، وقد ثم طلاء البيت باللون الابيض الطيني ، ولتصدح الاعيرة النارية ، تعقبها زغاريد النساء مهللة ، ودقات الطبول على رتم الحان شجية . ( سكب سال دمع الميامي حذايف .. وعقلي مرايف .. انا الليل ما نرقده من الزنايف ) .