ما أروع أن تُغَرّد خارج السرب، ذلك يعني ببساطةٍ أنّ لك صوتاً..
تُرى لماذا في ثقافتنا التغريد خارج السرب يعني النّشاز، وبالتالي يعني فيما يعنيه أنّه مذمّةٌ ومنقصة؟!!
شخصّياً أعتقد أن هذه نظريّةٌ قهريّةٌ تَبُثُّ في النفس روح الإحباط، وتقتل فيها كُلّ توقٍ للإبداع والتألق، وتُسكِنُ في اللاّوعي الجمعي قناعةً مفادُها أنّ من يكون له فِكرٌ يتميّز به، أو رؤيةٌ مُغايرةٌ يراها، أو يرفض السّير ضمن قافلة لا يدري من أين بدأت مسيرها ولا إلى أين تتجه يجب إقصاؤه، ثمّ محاربته، ناهيك عن التبّرأ منه..
عندما ترفض أن تكون مُجرّد شاةٍ في قطيع..
عندما تسمو بنفسكَ عن أن تكون فقط رقماً لزيادة العدد..
عندما تُقرّر استعمال تلك الهِبة التي وهبَك الله وميّزكَ بها من بين باقي المخلوقات، تلك الأمانة التي أبت أن تحملها السنوات والأرض والجبال، وحملتَها أنتَ لأنّ فيك من روحه نفخةٌ، ومن لدنه تكريماً حين خَلَقَك.
حينما تُدرك أنّ في داخلك انطوى العَالمُ الأكبرُ، وأنّ الذين أرادوا أن تكون تُبّعاً لهم وألعوبةً في ايديهم، ليسوا بأكثر مِنكَ حظّاً فيما استودعكم الخالق.
حينما تصِلُ إلى الحقيقةِ القائلة أنّ الإنسانَ إرادةٌ وطاقاتٌ كامنةٌ، وما عليه سِوى أن يكتشف هذه الطاقات داخله، ليتحوّل إلى مارِدٍ باستطاعته فِعل المستحيل.. بل إنّ كلمة المستحيل نفسها لن يكون لها وجودٌ في قاموسك الحياتيّ بعد إدراكك لِتلك الحقيقة.
حينها فقط ستعرفُ كم هي رائعةٌ لُغة الاستقلال في التفكيرِ والشّعور، وأنّه أمرٌ مُكمّلٌ بالضّرورة لشخصيّتك أن تفكر لِذاتك وتشعُرَ لِذاتك.
هذا نفسيّاً واجتماعيّاً، أمّا في لُغةِ الأدب فالتغريدُ خارج السّرب يُسمّى إبداعاً.. فما هو الإبداع؟
الإبداعُ.. هو الإتيان بالجديد، وغير المألوف.
هو طرق أبوابٍ لم تطرقها يدٌ من قبل.
هو السير في دروبٍ غير مُعبّدة، غير مُمهّدة للسير فيها، بل هي في غالب الأحيان دروبٌ مُخيفة، لأنّ أحداً لم يطأها.. ولم يمشِ فيها..
الإبداعُ هو ومضةُ البرق.. هو قدح الذّهن.. أو لعلّه الفكرة التي تُحلّق بك بعيداً، فتكتشف سماواتٍ غير السماء التي يراها الآخرون.
الإبداع هو تحرّرٌ من الواقع، بكلّ رتابته، بكلّ تكراره، وبكلّ اعتياديته.
الإبداعُ هو الغوص في عمق الفكرة، لاستخراج “فُكيراتها” الفسيفسائية التي تكوّن في مجموعها الفكرة المنظورة للآخرين.
الإبداعُ هو تخطّي التقليد.
الإبداعُ هو الإبحارُ ضدّ التّيار.. هو بذاته التغريد خارج السرب.. هو الذّهاب بعيداً بعيداً.. عن “القطيع”.
الإبداعُ هو الفعلُ الصّادم.. هو القولُ الصّادِم.. هو الكتابة الصّادِمة، التي تجعل الآخرين منبهرين.. مشدوهين.. إعجاباً.. وغضباً.. وربّما حسداً.. لتبدأ الحربُ عليك مِن قِبلهم، وأوّل تُهمة ستواجهها هي أنّك ” خالفتهم”!
أمّا في لُغة التنمية البشريّة فإنّ التغريد خارج السّرب يمكن ربطُهُ بما يُسمّى ب”التفكير خارج الصّندوق”، أي أن تأتي بأفكارٍ غير الأفكار المُقَولَبة الجاهزة، تلك الأفكار القريبة من الجميع والتي بإمكان أيّ كان أن يستحضرها وبكلّ سهولة، وهذه المَلَكة لا توجد إلاّ في من كانت لهُ رؤية خاصّة يُميّز بها، ويتميّز.
وبعد.. فإنّ ما قصدتُ قوله من هذه الأسطر، أنّ لِكلّ مِنّا عقله وفِكره الذي وهبه الله تعالى، وباستخدامنا لهذه الهبة نُصيبُ حيناً ونخطئ حيناً، حسب رؤية كلّ منّا للأمور، وهذا من طبائع الأشياء، أمّا الانقياد وراء ما يريده الآخرون وما يرونه بدون قناعة ولا اقتناع، خوفاً من أن نُنعت بأنّنا نُغرّد خارج السرب، فهذا لعمري هو قِمّة التنازل الطوعي عن الإرادة، والسّلب المهين لِحقّ أصيل من حقوقنا الطبيعيّة التي منحنا الله.
فهل بعد هذا نُلام على تغريدنا خارج السّرب إذا كانت جوقة ذلك السّرب ستقتلُ فينا كُلّ أملٍ للخلاص؟